أيها الرفاق: المعرفة خذلان!؟
د. نهلة عيسى
أيها الرفاق: هكذا خاطبت زملائي في العمل, لا نكد ولا وجع بعد اليوم, لست ذو القرنين لأحمل العالم بهمومه فوق رأسي, ولذلك أمامكم أعلن إضرابي عن الأخبار, وسأحزم الهموم في صرة, أخفيها في قاع الذاكرة, وسأهاجر إلى الفرح, إلى اللامبالاة, لأن في داخلي رغبة ساذجة دفينة, بالتحليق مع الطيور, علني لا أرى من أعلى, والعلو هروب, لا جروح, ولا ندوب, ولا مقاولي الوطن يعلبونه “مقبلات” لعشاق الكأس والمدام.
أيها الرفاق: ثماني سنوات ويومي تسعل فيه الظلمة والبرد, وليس لدي القدرة حتى أن أنام, فالقناديل تموت, وشعاع الشمس كخيوط العنكبوت, وقدمي تتلمس السلمة الأولى إليه, ويدي تتلمس الحاجز, كي لا أقع, لأن قلبي جائع من أكل الرياء, منهك.. حتى البكاء, ويا رفاق: بعد خراب الوطن ماذا يمكن أن يأكل القلب, كي لا يموت من العياء!؟
يقاطع صحبي شكواي, يقولون: الآن كنت تقولين أنك ستفارقين الوجع, هل نكستِ؟ أبتسم, أنا أريد ولكنه على ما يبدو لا يريد, تشظى الوطن, والرعب ليس من الحرب, حيث العدو, عدواً مبيناً, ولكن مما بعد الحرب, حيث العدو قرار, أو جار, أو قلة مال, أو صاحب مال يفرض العيش في ظل السيف وخواء البطون, وحيث المصابيح التي أوقدت للنصر تخبئ عينيها بأهداب جناحيها عن كل الجرائم التي تقع, بحجة ردم الجروح بالتراب, لأن التراب “كما يزعمون” دواء, لكن من يواسي القلب الذي اهترأ من الوجع, ومن يجمع حطامي وحطام الوطن من جديد, دون أن يتلو على أسماعنا وصاياه العشر, وأولها: لا تنطق!؟
يقاطع صحبي شكواي مرة أخرى, يقولون: ما كل هذا الألم؟ وأنت محسودة أنك “يوسف” محبوب “يعقوب”, ويقصدون بذلك الجنود على الجبهات يقاتلون, ويضيفون: لقد رحلت خلفهم إلى كل المطارح, بينما نحن نغرق في الخوف والنشيج, ووحده قلبك بقي بعيداً عن مسرح الجريمة, متسربلاً بالطمأنينة, لم يعرف الظلمة, يطرق الأبواب, يصاحب الدروب, ويتصفح الوجوه, كل الوجوه, ويرى في كل وجه على الجبهة, وجه الوطن, فيعتصمُ بالعروة الوثقى, ويبتسمُ!؟
قلت لهم: لأنني ذهبت إلى كل المطارح وعرفت, أشكو, لأن المعرفة وجع, بل أشبه بصعود الجبال الشاهقة, في البدء يكون المرء محملاً بالأمل, وفي الختام يكون محملاً بالخيبة, ذلك لأن معظم حواراتنا الشخصية منها والوطنية, تحولت إلى ساحات معارك, الذاهب فيها إلى قول الصدق, كمن يذهب برضاه إلى مشنقته, والراغب في قول الحق, عليه أن يحفظ جداول الحساسيات الفكرية, والعقائدية, والطائفية, وحتى المزاجية, وعليه فقط ترديد نصوص جاهزة مسموح تلوينها بالمدائح, ومرفوض مناقشتها بالعقل, وممنوع فيها استخدام إشارات التعجب, والاستفهام, والتوكيد, لئلا يعلنَ ويطوب مارقاً, خائناً, وفي أحسن الأحوال أنه لا يطاق!؟.
وأنا هذا الذي لا يطاق لأنه يعرف! والأدهى أنه يجاهر بأن تفاصيل يومنا باتت صوراً تناقض بعضها البعض, وتنفي بعضها البعض, وتتربص ببعضها بعضاً على كلمة أو حرف, أو حتى همسة أو غمزة عين, مما يجعل كل الأشياء, ملتبسة ومراوغة, وشبيهة بمواقف بعض مثقفينا, دائمي العيش في المنطقة الرمادية, بحجة مراقبة الأحداث من بعيد, لتكوين رأي عقلاني, وتنتهي الأحداث, ويموت من يموت, وينجو من ينجو, وهم مكانك راوح, مازالوا يفكرون, وأظن أن لاشيء فيه يفكرون, سوى انتظار الرابح, وفي ركابه يركبون, ويقولون: الساكت عن الحق شيطان أخرس, تراهم هؤلاء يقصدون, أم الشيطان في بلادنا من وجهة نظر هؤلاء, هو من يعرف!؟.
أنا هذا الذي لا يطاق لأنه يعرف! لكني أعزي نفسي, أن المعرفة وهي على عرشها, لطالما لاصقت الوجع, وصاحبت الخذلان, وتربت في حضن الرفض والمعاناة, فكيف إذا كان الزمان آخر الزمان, حيث لاعرش فيه, إلا للرصاص, والمستفيدين من الرصاص, ولا رأي فيه إلا لأصحاب العمائم, والميكرفونات, والاجتماعات, والصالونات المكللة بالكراهية, وبزينة الميلاد ترشق كرهاً على جسد المسيح المصلوب, حينها أليس طبيعياً أن أغضب, أهجر, أقاطع الأخبار, وأصاحب الصمم والعمى والخرس في رحلة طويلة, حتى يأتي زمن في بلادنا يطوَّب فيه العارف حكيماً وليس “جريح معرفة”, وأنا بالانتظار!!