تحقيقاتصحيفة البعث

نتيجة السياسات الزراعية الخاطئة مشاريع معطلة منذ سنوات في سهل الغاب.. وجهود ضائعة في أدراج النسيان!

 

كثرت الأحاديث عن تطوير القطاع الزراعي، والاستفادة من كل شبر في سورية، وإنشاء وزراعة حدائق منزلية وأسطح، والطلب من الجهات المعنية كوزارة الزراعة، والمالية، والاتحاد العام للفلاحين، والغرف الزراعية، وكان من باكورة هذه التصريحات تجديد قطيع الأبقار، ورفد الثروة الحيوانية بكم كبير منها، فضلاً عن مساهمة المصارف الزراعية بتقديم القروض اللازمة للمواطنين لشراء البكاكير لمن يرغب، تضاف إلى ذلك قروض مماثلة لشراء الأغنام، كان من نتيجتها تحديث وزيادة قطيع الأبقار أولاً، وزيادة عدد المشتغلين به ثانياً، تضاف إلى هذا وذاك إقامة العديد من منشآت الألبان والأعلاف في محافظتي حماة بجب رمله، واللاذقية، ولكن مازال يعكر صفو القطاع الزراعي أنه لم يلق هذا الاهتمام المماثل بدليل أننا للسنة الرابعة توالياً نزرع الشوندر ونقدمه علفاً للماشية، ما يشي بأن بعض الطروحات لجهة إيلاء القطاع الزراعي هي مجرد تصريحات جميلة أتقن المعنيون الحديث عنها.
اسألوا المزارعين لماذا تراجعت زراعة الشوندر من فائض الإنتاج الذي كان يشكّل هماً وقلقاً إلى التدني الذي وصل إلى خمسة آلاف طن؟ ومعمل السكر لم يعمل منذ سنوات؟ ولماذا تراجع إنتاجنا من القمح من التصدير إلى الاستيراد، وكذلك القطن، وغيرهما؟.
ولعل السؤال المهم الآن الذي يمكن طرحه هو: هل يفتح مشروع الإعمار الذي يشغل بال الحكومة هذه الأيام، ويعتبر من الأولويات بعد القضاء على الإرهابيين لنسير بخطا ثابتة باتجاهها، جديداً آخر نحو الاستدامة الاقتصادية، والبيئية، والزراعية؟ فسهل الغاب لوحده كان يمكن أن يكون سلة سورية، ورديفاً للمحافظات الشرقية الهامة زراعياً، لكن فشل كل الخطط والبرامج التي خصص بها منذ بدء إنشاء السدود، مروراً بالقرى النموذجية، وانتهاء بعمليات الاستصلاح، جعل منه أمراً محيراً، وبدأ يفقد الكثير من حضوره وتأثيره، فكل ما كان يتم طرحه لقي الفشل، وكان آخرها إنشاء وإقامة أربع سدات مائية في سفحه الغربي.
فشل السياسات الزراعية
كانت الغاية من عمليات استصلاح المزيد من أراضي الغاب وغير سهل الغاب زيادة الرقعة الزراعية، ورفع نسبة الشاغلين في القطاع الزراعي، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي، وتصدير الفائض، وقد حصل هذا حتى نهاية التسعينيات، ليبدأ فصل جديد من الانتكاسات في هذا القطاع الهام، فقد تم استصلاح 17400 هكتار، وغيرها من المشاريع الأخرى كإقامة السدود لري هذه المساحات، وتخفيف تدفق الطمي، وتثبيت العاملين في هذا القطاع بأراضيهم لتسهم في التنمية البشرية لسكان المنطقة هناك، وتوفير المياه بدلاً من ضياعها هدراً، كما يحدث الآن، ولتكثيف القطاع الزراعي، فضلاً عن حماية الأراضي من الانجراف شتاء، ولكن أين هي هذه المشروعات الآن، وكيف هو سهل الغاب؟.

من المسؤول عن الفشل؟
من الأسئلة التي تطرح بإلحاح الآن: لماذا فشل إقامة السدات الأربع التي كان جارياً الحديث عنها قبل الأزمة وبعدها، بل منذ عام 2002؟.
تجيب مصادر مديرية موارد حماة المائية قائلة: لقد كانت لنا وجهة نظر حول الدراسة التي قدمتها الشركة الإيرانية /سونير/ لجهة ضرورة تعديلها لرفع منسوب التصميم كي لا يحدث غمر وغرق للأراضي الزراعية، فأعدنا هذه الملاحظات لهم، أي للشركة الإيرانية عن طريق وزارة الموارد المائية مع بداية الأزمة، وانتهى الموضوع عند هذا الحد.
وأضافت مصادرنا بأن السدات الأربع المشار إليها لو كتب لها النجاح لحلت قسماً مهماً من قلة الموارد المائية لسهل الغاب، ومحاصيله الزراعية هناك، حيث تبلغ سعتها 42 مليون متر مكعب، وكانت كلفتها حينذاك ستة مليارات، أما الآن فقد يفوق الرقم الضعف، فالتأخير في إنجاز أي مشروع ليس لمصلحة التنفيذ، فانظر ما يجري الآن في سهل الغاب: عطش صيفاً، وغمر وغرق شتاء، حيث تذهب جل مياهه هدراً إلى البحر، فسدا زيزون وقسطون خارج الخدمة الآن لوقوعهما تحت سيطرة الإرهابيين، في حين سدود أفاميا الثلاثة الأخرى ليست على ما يرام في بعض منها، والبعض الآخر يقع في مجال وحرم قلعة المضيق، ما يعني تعذر الاستفادة منها جميعاً، في حين لو كانت السدات الأربع جاهزة لحافظنا على كميات مهمة من المياه.

كيف نعيد للزراعة ألقها؟
نعتقد أن كل ما يقال ويدور من أحاديث وتصريحات لجهة العودة بالقطاع الزراعي إلى الواجهة لا يمكن تنفيذه وتطبيقه على أرض الواقع إلا بشرطين أساسيين: أولهما إعادة النظر بالسياسة السعرية للمحاصيل الاستراتيجية منها، كالشوندر، والقطن، والقمح، فها هي مصر ترفع سعر شراء القمح من مزارعيها كما هو سعره العالمي، وبشكل أوضح كما تشتريه بالدولار تحفيزاً وتشجيعاً لمزارعيها، في حين مازالت أسعار التكلفة لدينا أكبر مما هي عليه الآن، مع الإشارة إلى رفع سعر شراء طن البذار إلى 180 ألف ليرة، والإبقاء على سعر طن الشراء بـ 175 ألف ليرة، وهذا لم يحدث مع أي مزارع إلا ما ندر نظراً لقساوة شروط التسويق الحكومي من قبل مؤسسة الحبوب، ففي دراسة مقدمة لصندوق الجفاف والكوارث الطبيعية من قبل مدير الاقتصاد الزراعي والاستثمار الدكتور مجد أيوب اطلعت عليها قبل أشهر من الآن، يشير فيها إلى أن سعر تكلفة الدونم الواحد من القمح المروي تصل إلى 2330 ليرة، ومن الشوندر تصل إلى 69105 ليرة، في حين يؤكد المزارعون صعوبة تأمين مستلزمات الإنتاج، تارة من السوق السوداء، سواء أكانت من المبيدات، أو من المحروقات، لتأتي بعد ذلك أجور النقل في هذا الصدد، يقول المهندس رفيق عاقل، عضو المكتب التنفيذي لقطاع الزراعة بحماة: إذا ما أردنا العودة للإنتاج الزراعي بفائض إنتاجه، علينا إعادة النظر بشكل مستمر بالتسعير، فهي المحفز الأول والأخير، مضيفاً بأن محافظة حماة كانت قد رفعت مذكرة إلى وزير الزراعة تشرح فيها ضرورة زيادة أسعار المحاصيل كالقمح، والشعير، والقطن، والشوندر السكري، فتمت إعادة النظر ببعضها، لكن بشكل خجول لجهة رفع أسعار الشراء كالقمح مثلاً، وكما نلاحظ اتجه المزارعون نحو زراعة الخضروات أكثر منها لزراعة المحاصيل الاستراتيجية الأخرى.
وعن تراجع سهل الغاب خلال السنوات السبع الماضية أشار عاقل إلى أن أول أسباب تراجع سهل الغاب هو سوء التخطيط وعدم النظر إليه بمنظور متكامل لا بعين واحدة، لجهة القطاع الزراعي فحسب، بل سياحياً أيضاً، فهو يعتبر من خلال السلسلة الجبلية الغربية من أجمل المواقع، لافتاً إلى أن ما لحق بما كان مخططاً، ومسمى القرى النموذجية، لم يعد موجوداً، في الوقت الذي يقضم السكن والزحف العمراني مئات الدونمات سنوياً بدلاً من السماح بالبناء الشاقولي، أو بالقرب من الغابات، مع الحفاظ عليها وحمايتها جيداً.
أستاذ مادة المبادئ الاقتصادية في جامعة حماة الدكتور جمال طقطق قال لنا في حوار سابق: مازالت السياسات الاقتصادية الزراعية وغير الزراعية لدينا دون المستوى المطلوب، ولم تستطع البحوث الزراعية الوصول إلى استنباط أصناف مقاومة للأمراض والظروف البيئية المحيطة بها، فضلاً عن تدني إنتاجيتها، رغم أنها، أي البحوث الزراعية، تؤكد تقديم البذار الجيد، ولكنه يحتاج لوقت ريثما يتأقلم ويعتمد رسمياً، مضيفاً: لماذا لا تتم دراسة التصنيف الزراعي لكل منطقة على حدة، ووفقاً لما يناسبها يمكن زراعته؟.
من ناحيته قال مدير الموارد الطبيعية المهندس أمير عيسى: ما يلحق بسهل الغاب من اعتداءات وتجاوزات، وبخاصة لجهة الغابات، أمر محزن، فحتى المراعي لقطعان الثروة الحيوانية باتت مقلقة، فقبل سنوات عدة من الآن أينما نظرت ترى قطعان الأبقار، والمسامك، والحركة النشطة، لكن صعوبة تأمين المستلزمات والمحروقات، وارتفاع أسعارها، جعلت الفلاحين يعدون للألف قبل الشروع بعملية الزراعة، رغم أنها مصدر عيشهم وعشقهم، بل هي جزء منهم، وبلا زراعة لا يستطيعون العيش.

تخبط زراعي
باختصار، ما لحق بسهل الغاب منذ عشر سنوات ماضية أعاده إلى الوراء كثيراً، فلا زراعاته وإنتاجيتها، ولا ثروته الحيوانية والسمكية، ولا غاباته، ولا مياهه، ولا سدوده، ولا قراه النموذجية، وكل ما يجري فيه من سياسات زراعية عشوائي، حتى ما تم إقرارها من قبل رئيس الحكومة يوم زار محافظة حماة لم يكتب لبعضها الشروع بالتنفيذ بعد مضي حوالي السنة من الآن، صحيح أن هناك خططاً زراعية ومساحات تنفذ حيناً، ولا تنفذ أحياناً أخرى، والشوندر شاهد على ذلك، ولايزال يغرق شتاء، وتغمر مياه الأمطار أراضيه، ويعطش صيفاً، ومن الإنتاج الوفير إلى التراجع المخيف، والمطلوب التحفيز السعري، وتوفير المستلزمات ولو بالدين لحين تسليم المحاصيل، وبخاصة المسوقة حكومياً، وبغير ذلك ستبقى كل الأحاديث وزراعاتنا “إلى الوراء در”!.

محمد فرحة