مطـــرٌ.. مطـــــر
د. نضال الصالح
ومن غير مكان كانَ الترتيلُ يصّاعدُ، ثمّ ينهمرُ: “إنْ يمسَسْكُمْ قَرْحٌ فقد مَسَّ القومَ قَرْحٌ مثله.. واللهُ لا يحبُّ القومَ الظالمين”، ومن غير جهة في القلب كانَ القلبُ يترنّح ممسوساً بغير قرْح، ثمّ يتضرّع: يا ربّ، وقد مسّنا غبارٌ، تداعى علينا حتى حجبَ الأزرق الذي نحبُّ، أزرقَنا الأزلَ، وحتى صيّر سماءَنا أشبه بدمّ. ويا ربّ، وهؤلاء البشرُ الغبارُ، والدولُ الغبارُ، والممالكُ الغبارُ، والأمراء والحكّام الغبارُ، واللحى الغبارُ، ويا ربّ، أفما آن لهذا الغبار أن يتبدّد، أنْ تنهضَ ملائكُ الرعود والبروق والأمطار من سباتها، فتغمرَ هذا العالم بالماء؟ ويا ربّ، أفما بشمتْ ثعالبُ الموت من لحمنا؟ ويا ربّ، فمتى تؤذنُ للسماء أن تبرق، وترعدَ، فيصهل الماء في سماء وأرض أثخنهما الغبارُ بالأحمر الفادح؟ فمتى تقول للماء “كنْ” فيكون، ثمّ يكون الأزرقُ الذي نحبُّ، أزرقُنا الأزلُ؟
غبارٌ، غبارٌ، غبارٌ، وأنا أمضي من مشفى إلى آخر من أجل الباشق، كما يحلو له أن يسمّيَ نفسَه، الذي، شأنَ آلافٍ، عشرات الآلاف، من الشباب والرجال، يواجه عبيدَ الدم في غير معركة، وفي غير جزء من سورية، في مواجهة الغبار الذي تدفّق على سورية من غير جهة من صحارى الأرض، حتى اخترقتْ طلقة قنّاص كتفه، وحتى مضت الطلقة إلى عموده الفقريّ، فألجمتْ جسده كلّه عن الحراك.
غبارٌ، غبارٌ، غبارٌ، وفي غير مشفى رأيتُ الكثير من الشباب الجرحى، وما إنْ كنتُ أغادر هذه الغرفة أو تلك، حتى ألعن هذا العالَم المتخم بالغبار. وفي كلّ غرفة كنت أرى شباباً “متل الورد” كما كانت تحكي أغنية حزينة وقديمة عن السفر برلك، ثمّ تغزوني الأخبارُ من الشاشات المعلّقة على الجدران عن رجال كما الماء أمضوا ما يزيد على سنتين وهم يذودون عن مطار الطبقة، ثمّ ازدحمَتِ الجهاتُ حولهم برجالٍ شُعْث غُبار، جيءَ بهم من كلّ فجّ رجيم، وعن رجال كما الصخر في غير جزء من البلاد كلّما دهمهم غبارٌ أوسعوه بماء البسالة، والانتماء، واليقين بأنّ هذه البلاد المطعونة بالغيرة من أبجديتها الأولى، وأرجوانها الأول، و.. لا بدّ ستعشبُ بالحياة.
غبارٌ، غبارٌ، غبارٌ، وأنا محتشدٌ بفحيح الغبار في غير جهة من القلب، أمضي من كتاب إلى كتاب، ثمّ يروي “مجاني الأدب في حدائق العرب” لي ما كانَ السيوطيّ حدّثَ عن عاصفةٍ دهمتِ البلادَ سنة ثلاث وتسعين للهجرة، فقال: “في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أتى عارضٌ فيه ظلماتٌ متكاثفةٌ، وبروقٌ خاطفةٌ، ورياحٌ عاصفةٌ، فقويتْ أهويتُها، واشتدّ هبوبُها، وتدافعتْ لها أعنّةٌ مُطْلَقاتٌ، وارتفعتْ لها صواعقُ مُصعقاتٌ، فرجفتْ لها الجدرانُ واصطفقتْ، وتلاقتْ على بُعدها واعتنقتْ، وثارَ بين السماء والأرض عجاجٌ فقيلَ: لعلّ هذه على هذه أطبقتْ”.
وبينما أردّدُ: “كأنْ يا جدّي، كأنْ.. “، وبينما الباشقُ طاعنٌ في لجّةِ هدأةٍ تشبه الموت، سوى ما يعني أنّه لمّا يزل على قيد ماء، أرعدتِ السماء، ثم انهمر مطرٌ كأنْ لم تعرف البلاد من قبلُ، ورأيتُ الباشقَ يتحرّك، ثمّ يغادر سريره، ثمّ يرمح بقامته في الغرفة، ثمّ يصدح بالغناء: “مطر.. مطر”، وكنت أقرأ مكتوباً على جناح غيمة: حماة الديار عليكم سلام.