مئة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى
د. مازن المغربي
احتفلت الحكومة الفرنسية بمرور مئة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى، والذي صادف الحادي عشر من شهر تشرين الثاني تاريخ توقيع وثيقة استسلام ألمانيا بحضور زعماء ثمانين دولة شاركت في تلك المجزرة المريعة.
تبدو المناسبة فرصة لتذكير العالم بأن فرنسا هي عضو في نادي القوى الكبرى، وأن من حقها المشاركة بدور أكبر في إدارة شؤون العالم، فبالنسبة لفرنسا كانت الحرب العالمية الأولى هي الحرب الكبرى التي انتهت بانتصار الجيش الفرنسي على الجيش الألماني، وبالتالي استرجاع منطقتي الألزاس واللورين اللتين كانت قد استولت عليهما ألمانيا في حرب 1870.
كانت فرنسا وقتها تعيش في ظل الامبراطورية الثانية التي بذلت جهوداً حثيثة لمنع توحيد الإمارات الألمانية تحت قيادة بروسيا، وانتهت الحرب بهزيمة فرنسا، وسقوط الامبراطورية الثانية، وإعلان الجمهورية الثالثة، لذا تحتل الحرب العالمية الأولى مكانة مميزة في التاريخ الفرنسي، حيث استقبلت باريس مؤتمر السلام عام 1919 الذي انتهى بفرض عقوبات مذلة على ألمانيا مهدت الطريق لانبعاث الروح القومية الألمانية بقوة، ومهدت بذلك الطريق إلى حرب عالمية ثانية.
الاحتفالات في التوظيف السياسي
ليست الاحتفالات بالمناسبات البريئة، بل هي حدث تم الإعداد له وفق تخطيط مدروس بهدف توظيفه سياسياً في خضم الصراع السياسي الدائر في مختلف بلدان العالم، وفي أوروبا بشكل خاص.. إن الأنظمة السياسية القائمة حالياً في أوروبا هي من نتاج النظام الدولي الذي فرضه المنتصرون في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أي الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة، وبريطانيا، حيث اجتمع ممثّلو هذه البلدان مرتين، كانت الأولى عام 1943 في مؤتمر طهران، والثانية في يالطا عام 1945، وقد شهدنا خلال العقود الماضية من السنين محاولات العديد من القوى الكبرى لإلغاء تداعيات الحرب العالمية الثانية، في حين لاتزال منطقتنا تعيش النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى، ولمؤتمر السلام في فرساي.
لم تكن لسكان الساحل الشرقي للبحر المتوسط أية علاقة بتطور الصراع في القارة العجوز التي عاشت على مدى سنوات طويلة في ظل ما سمي باللعبة الكبرى، أي الصراع بين الامبراطورية البريطانية المعتمدة بشكل أساسي على قوتها البحرية من جهة، وروسيا القيصرية، الدولة القارية مترامية الأطراف التي ضمت شعوباً، وأعراقاً، وأدياناً متعددة من جهة ثانية، وكان مصير بلدان ما عرف ببلاد الشام مرتبطاً إلى حد بعيد بالصراع بين القوى الكبرى، في حين عاش سكان البلاد ضمن مجتمعات منغلقة لا يربطهم بالسلطة المركزية سوى إعلان الولاء، ودفع الضرائب، وتقديم الموارد لدعم المجهود الحربي، أما الحياة اليومية فكانت تدار من قبل زعماء محليين من وجهاء، ورجال دين.
لم يكن انتشار الأفكار الوطنية والقومية، كما كان الحال في أوروبا وفي العالم الجديد، نتيجة تطور الأسواق الرأسمالية التي بنت كياناً سياسياً يتلاءم مع متطلبات السوق، حيث تم تفكيك البنى الاجتماعية التقليدية لمصلحة النظام الرأسمالي الصاعد، وعملية التصنيع التي قضت على فرادة الإنسان، وحوّلته إلى حلقة في سلسلة الإنتاج التي لا تتطلب من العامل سوى أداء حركات محددة مرسومة عبّر عنها بشكل رائع الفنان المبدع تشارلي شابلن في فيلم (الأزمنة الحديثة).
إذاً عاش سكان بلاد الشام مستكينين إلى سلطة الباب العالي الذي بدأ يتداعى مع دخول الدولة العثمانية، متأخرة، إلى السوق العالمية، الأمر الذي فرض على السلطنة إجراء إصلاحات بنيوية في سباق مع الزمن، أشرفت على الإصلاحات مجموعة من الشخصيات من خريجي الجامعات الأوروبية، وبالتالي كانت نظرتهم محكومة بما تعلّموه في أوروبا، ولم تؤخذ بعين الاعتبار خصوصيات وضع الدولة العثمانية.
استوحت تلك الإصلاحات التجربة الأوروبية إلى حد بعيد، وكان هدفها تغيير نظام الامبراطورية العسكري والإداري، وإرساء هذه الامبراطورية على أسس فكرية وقانونية جديدة، أو إصلاح المجتمع وفق أنظمة سياسية تستوحي التجربة الأوروبية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة، متجسّدة في مجالس نيابية منتخبة، ودخلت الحياة العامة مصطلحات جديدة مثل الوطن، والدولة الحديثة، والولاء الوطني، وضمن هذا الإطار عملت الحكومة العثمانية على تحديد سلطات الحكام المحليين، الأمر الذي دفعهم للاتصال بالبلدان الغربية بهدف الحصول على ضمانات تدعم سلطتهم.
وعلى خط مواز لم تكن الدول الأوروبية بعيدة عن توجيه الحركة الوطنية الجنينية، بل حرصت على توجيهها ورعايتها، وتجلى هذا بالمؤتمر الذي استضافته باريس عام 1913 تحت عنوان المؤتمر العربي الأول، في وقت كانت فرنسا وبريطانيا وايطاليا تهيمن على كل البلدان الناطقة باللغة العربية في شمال أفريقيا.
كان معظم مندوبي المؤتمر من ولاية بيروت التي ارتبطت بعلاقات مميزة مع فرنسا التي لم تخف أطماعها في بلاد الشام.
بالمقابل كانت لدى القيادة البريطانية أوهام تتعلق بدور الإسلام في حياة الناس في الدولة العثمانية، وكانت الجيوش البريطانية عانت الأمرين في مواجهة انتفاضة المسلمين في الهند عام 1857، ومن ثم ثورة المهدي في السودان التي تمكنت من السيطرة على البلاد، وقتلت الحاكم البريطاني غوردن عام 1885، وعلى امتداد أكثر من عشر سنين انتقلت القوات البريطانية من هزيمة إلى أخرى، ولم تتمكن لندن من إعادة السيطرة على السودان إلا بعد معارك ضارية قادها المارشال هوراشيو كتشنر الذي سيلعب الدور الحاسم في التمهيد لإعادة تشكيل الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى.
الخوف من روسيا
كان الخوف من الأطماع الروسية في أراضي السلطنة العثمانية هو العامل الرئيسي الذي دفع اللورد كتشنر للتحالف مع بعض زعماء الحركة العربية الوليدة، كما كان لدى الروس حلم قديم في السيطرة على المضائق، والوصول إلى المياه الدافئة، إذاً في واقع الأمر كان الصراع على ما عرف لاحقاً بالشرق الأدنى محتدماً بين روسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وإلى حد ما ايطاليا، كانت ألمانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي قبلت التعاون مع ضباط الاتحاد والترقي الذين كانت أهواؤهم بالأصل بريطانية أو فرنسية، ولكن فرض عليهم التعاون مع ألمانيا القيصرية التي أشرفت على تحديث الجيش العثماني، وأعدت مشاريع كبرى مثل الخط الحديدي بين برلين وبغداد، ومشروع الخط الحجازي الذي أثار مخاوف حاكم مكة الحسين بن علي.
وشهدت تلك الفترة العديد من المفارقات، وبروز شخصيات مغامرة غريبة، وربما كان من أبرز المفارقات فكرة التحالف بين الحركتين العربية واليهودية الذي تجسّد عملياً في واقع مشاركة القوات العربية والفيلق اليهودي في معارك تحت قيادة القائد البريطاني ادموند اللنبي الذي أدار العمليات القتالية في بلاد الشام عامي 1917-1918، ومن أغرب الشخصيات التي برزت في تلك الفترة محمد بن شريف الفاروقي الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني، وادعى تمثيل حركة العهد التي ضمت ضباطاً من الناطقين باللغة العربية، والحانقين على التمييز ضدهم، أرسل إلى الجبهة في أيلول عام 1915، حيث أصبح حلقة اتصال بين الحركة القومية العربية والبريطانيين، وصار المتحدث باسم القوميين، وكشف عن وجود جمعية عربية قوية تضم كثيرين أقسموا على إقامة دولة عربية في الجزيرة العربية والعراق وسورية، كما كان له دور كبير في مراسلات حسين– مكماهون التي أسفرت عن وعد بمنح العرب دولة موحدة ومستقلة في معظم أجزاء الجزيرة والمشرق.
في بداية الحرب العالمية الأولى كان اللورد كتشنر حاكماً لمصر، وكان يتمتع بشعبية واسعة بفضل نجاحه في إعادة فرض السيطرة البريطانية على السودان، ولم تكن بريطانيا مستعدة للحرب، الأمر الذي دفع تشرشل لاقتراح تعيين كتشنر وزيراً للحربية ليكون أول عسكري يحتل منصباً حكومياً رفيعاً منذ عام 1660، تولّد لدى الحكومة البريطانية وهم إمكانية إنهاء الحرب بسرعة، لكن كتشنر فاجأ الجميع بقوله إن الحرب ستستمر ثلاث سنوات على الأقل، وإنها ستحسم على أرض القارة الأوروبية وليس عن طريق المعارك البحرية، بعدها قام كتشنر بإعداد جيش من المتطوعين في سابقة تاريخية، حيث كانت معظم الجيوش تعتمد على التجنيد الإجباري، ظل منصب كتشنر في القاهرة شاغراً لأن المارشال رغب في العودة إليه بعد الحرب، لكن التطورات الميدانية حتمت تعيين شخص مكانه، ووقع الاختيار على السير هنري مكماهون الذي منح لقب المندوب السامي، وبالاعتماد على التقارير الاستخباراتية تولّد لدى كتشنر اعتقاد بأن عرب بلاد الشام ساخطون على الحكم التركي، وأنهم معادون لفرنسا، وبالتالي انتابه وهم بأن العرب سيرحبون بأن يحكموا من قبل بريطانيا، وعندما كان الحديث يجري حول استقلال العرب، كان المقصود هو استقلالهم عن القوى الكبرى المنافسة، وتبعيتهم لبريطانيا، كان المشروع البريطاني قائماً على فكرة إقامة كيان سياسي واسع تحت زعامة خليفة عربي، ووقع الاختيار على حاكم مكة بسبب سهولة السيطرة عليه، حيث كانت كل سواحل شبه الجزيرة العربية تحت السيطرة البريطانية، وكان مضمون الفكرة هو إنشاء كيان لامركزي يضم سورية، ولبنان، وفلسطين، وجزءاً من العراق، وبهذا يتم التوفيق بين الوعود المتناقضة التي منحت للعرب واليهود، ولم تكن تدور في خلد أحد إقامة دولة وفق نموذج الدولة– الأمة القائم في أوروبا.
تفتيت الشرق الأوسط
شهدت فترة الحرب العالمية الأولى عدة أحداث هامة مثل اتفاقية سايكس– بيكو التي تم توقيعها في السادس عشر من أيار 1916، ولم تخرج إلى العلن إلا إثر ثورة تشرين الأول، حيث قامت صحيفتا البرافدا والاسفزتيا بنشر بنود الاتفاقية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 1917، وكذلك إعلان بلفور الذي صدر في الثاني من شهر تشرين الثاني 1917.
وفي الأول من شهر تشرين الأول 1918 دخلت القوات الاسترالية مدينة دمشق، وتم تشكيل حكومة في ظل الاحتلال البريطاني للداخل السوري، في حين انتشرت القوات الفرنسية في الساحل السوري من بيروت إلى اللاذقية، ومع انتهاء العمليات العسكرية الكبرى برزت تباينات في وجهات النظر بين البريطانيين الذين أرادوا إنشاء كيان لامركزي في ظل نظام ملكي دستوري، والفرنسيين الذين أرادوا تطبيق كل بنود معاهدة سايكس- بيكو، وجاء انسحاب القوات البريطانية من الداخل السوري في تشرين الثاني من عام 1919 ليضع الملك “فيصل” في مواجهة مباشرة مع فرنسا التي لم تر فيه أكثر من ألعوبة في يد بريطانيا، لم ينفع “فيصل” قبوله الضمني بالانتداب من خلال اتفاقية فيصل- كليمنصو، ولا اتفاقه مع حاييم وايزمان خلال مؤتمر الصلح في باريس الذي تضمن القبول بإعلان بلفور، وكانت النتيجة طرده بشكل مهين من سورية.
نتبيّن من هذا الاستعراض التاريخي بأن مصير بلادنا تم تحديده قبل مئة عامة من قبل القوى الكبرى المتصارعة، حيث لم تكن في البلاد نخبة سياسية تمتلك مشروع بناء دولة حديثة، بل كانت فيها مجموعة من الشخصيات الوطنية التي لم تكن مقتنعة بإمكانية بناء كيان سياسي سوري مستقل، وبعد مرور مئة عام على ميلاد سورية الحديثة نجد أن محاولات القوى الكبرى لتحديد مصير البلاد لم تتوقف، لكنها اصطدمت بوجود قيادة سياسية تمتلك مشروعاً واضحاً، وتعرف كيف توظّف تحالفاتها الدولية والإقليمية في خدمة رؤيتها لمستقبل أفضل.