الأوزان السياسية تحدد نسق القطبية العالمية
علي اليوسف
تحول النظام العالمي أحادي القطبية الذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، إلى نسق متعدد الأقطاب، بسبب “الوزن” الجيوسياسي الذي اكتسبته دول مثل روسيا، والصين، بالإضافة إلى العديد من الاقتصادات الناشئة، إلا أن المقاييس الفعلية التي يمكن أن تزان بها هذه القوى لا يتم بحثها عادة إلا بنوع من الغموض إذا طرحت للمناقشة، لأنه في واقع الأمر لا يوجد مقياس محدد يمكن استخدامه لقياس الوزن الدولي لأي بلد نسبة إلى دول أخرى.
حتى في الجانب الاقتصادي لكثير من الدول يكون هناك تفاوت في المقاييس، فعلى سبيل المثال، يستخدم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقاييس اقتصادية، مثل الناتج المحلي الإجمالي، وحجم التجارة، لكن هذه المقاييس غير موحدة عبر المؤسسات الأخرى، حتى في الأمم المتحدة لا تستخدم المقاييس نفسها في جميع هيئاتها، ففي الجمعية العامة، يقاس وزن كل بلد وفقاً لمقاييس متساوية، ولا وجود لحق النقض، أما في مجلس الأمن فتتمتع الدول الخمس دائمة العضوية بحق النقض.
وهنا من الضروري فهم التحول الأساسي في الأوزان الرئيسية التي تعكس التحولات البنيوية، لهذا تبرز مجموعة مقاييس للوزن الدولي لأي بلد: حجم السكان، وحجم الاقتصاد قياساً بحجم الناتج المحلي الإجمالي، وأسعار السوق، والقوة العسكرية والإنفاق على الدفاع، وإذا كانت هذه المقاييس على الأهمية نفسها، سيبدو الأمر وكأن القوى الأكثر “أهمية” هي الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، واليابان، والهند، وروسيا، والبرازيل.
هذه المقاييس تعتبر نقطة بداية مفيدة لمقارنة الأوضاع النسبية للأوزان العالمية في عام 1990، عندما بدأ ما يسمى النظام أحادي القطب في الظهور، والأوضاع النسبية في عام 2017، عندما كان من الواجب أن تكون خطوط الشكل الخارجي للنظام متعدد الأقطاب مرئية.
في نيسان 2018 صدر تقرير عن صندوق النقد الدولي للتوقعات الاقتصادية العالمية، وقاعدة بيانات الإنفاق العسكري الصادرة عن معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، والأرقام التي خرج بها تسلّط الضوء على صعود الصين التي تزايدت حصتها في كل من الناتج المحلي الإجمالي، والإنفاق العسكري بشكل كبير من 1.7% إلى 15%، ومن 1.6% إلى 13.8% على التوالي، كما زادت حصة الهند في كل من المجالين، ولكن انطلاقاً من قاعدة أصغر كثيراً من 1.4% إلى 3.3%، ومن 1.4% إلى 3.6% على التوالي، ولم تتمكن أية قوة أخرى من تحقيق زيادة مماثلة في “الحجم”، في المقابل فقد خسرت الولايات المتحدة قليلاً من حيث الناتج المحلي الإجمالي والسكان، لكنها لاتزال تعد القوة الأكبر على الإطلاق بالنسبة لقوتها العسكرية، ومقارنة بأمريكا والصين تعد روسيا “صغيرة” في ظل انخفاض السكان، وتراجع الناتج المحلي الذي لا يتجاوز 2% من الإجمالي العالمي، رغم أن امتلاكها لأسلحة نووية من العوامل التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار.
هذه المقاييس التي تعتمدها الهيئات الدولية تدل إلى أن العالم سيدخل العقد القادم في حالة ثنائية القطبية تسيطر عليها الولايات المتحدة والصين بقوة، وإذا عومل الاتحاد الأوروبي بوصفه قوة موحدة، بما في ذلك من قِبَل الدول الأعضاء، فقد يمثّل قطباً ثالثاً، والهند التي ينمو ناتجها المحلي الإجمالي الآن بما يقرب من 8% سنوياً، قد تشكّل قطباً رابعاً، لكن الطريق أمامها لايزال طويلاً.
كثيرون يأملون أن تضع الصين ثقلها خلف نظام عالمي متعدد الأطراف، ولكن يبدو أن قادة الصين لا يحبذون الانتقال السريع كي لا يدخلوا في حرب تجارية مع أمريكا تغير قواعد اللعبة الدولية، وهم حتى لا يميلون لهذه النزعة، وحده الاتحاد الأوروبي يبدو أنه يتمتع بنزعة تعددية قوية، لكنه ضعيف بفِعل الانقسامات الداخلية، وإذا نجح في التغلب على هذه الانقسامات، فربما يصبح بطل التعددية، لكنه في الوقت الحالي شديد الانقسام، وحدها الهند ستصبح مدافعاً عن التعددية، لكنها في الوقت الحالي تتبع سياسات أحادية ولاتزال تفتقر إلى النفوذ الدولي اللازم.
وهذا، في واقع الأمر، يترك الولايات المتحدة مسيطرة على النظام التعددي، خاصة أنها لاتزال تقاوم على نحو متزايد التعاون الدولي، بل وتسعى إلى تقويضه، وهذا يشكل مصدر قلق بالغ، وكما أشار روبرت كاجان، مؤرخ أمريكي، ومعلّق في السياسة الخارجية، وباحث أول بمعهد بروكنغز للدراسات، في عالم اليوم شديد الترابط نحتاج إلى قواعد ومؤسسات لحكم السوق والنشاط الاقتصادي أكثر من أي وقت مضى، وسوف يتزايد وضوح هذا الأمر بفِعل القضايا السياسية والأخلاقية التي تفرضها التكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي، والهندسة الجينية التي يجب معالجتها على مستوى دولي.
وعليه لاتزال الولايات المتحدة بعيدة عن كونها متحدة فيما يتصل بمعارضة التعددية، ومن الممكن أن تكسب الكثير من وراء الانفتاح والتعاون، ولكن في الوقت نفسه، من الضروري أن تواصل القوى الفاعلة الأخرى استخدام وتشجيع التعددية في كل فرصة، ومن الممكن تحقيق قدر محدود من التعاون القطاعي أو الجغرافي، ولابد أن تخاض المعركة الأيديولوجية الأكبر من أجل نظام دولي قائم على القواعد باستخدام جرعة قوية من التربية المدنية العالمية، ومن الممكن عكس الهزائم التكتيكية الحالية في حال الفوز في المعركة الأيديولوجية، ونظراً للحاجة إلى التعاون الشامل، فإن تكييف وتعزيز نظام حكم عالمي أخلاقي قائم على القواعد يشكّل أمراً بالغ الأهمية لتأمين السلام والتقدم في الأمد البعيد.