ثقافةصحيفة البعث

الحرب في المدونة الروائية السورية

“للأدب مهمة –كما يرجى منه دائماً- توثيق لكل الآلام والأوجاع وشلالات الدماء التي سالت من شهداء سورية، ولآلام الأمهات والزوجات والأبناء ولآلام المهجرين والمفقودين والجرحى، كلنا عشنا هذا الانكسار الروحي نتيجة ضخامة حجم هذه الهجمة على بلدنا”، بهذه الكلمات بدأ الأديب سمير عدنان المطرود ندوة “الحرب في المدونة الروائية السورية، نماذج مختارة” التي أقيمت في مكتبة الأسد.

أنواع الرواية

تسلط الندوة الضوء على بعض الأعمال الروائية السورية التي حاولت مقاربة هذه الحرب من عدة زوايا، وقد طرح الأديب والناقد نذير جعفر أسئلة متعددة منها: ألا يبدو الواقع السوري الراهن والصادم أغرب من الخيال؟ وهل تركت أهوال هذه الحرب ومروياتها الشفوية اليومية للمبدع ما يقوله؟ وما جدوى الأدب برمته-كما يقال مادام الموت اليومي يتسيّد المشهد بسواده ويطغى على كل ماعداه؟ وقبل كل هذا وذاك أليس من المبكر الكتابة عن أحداث عاصفة بل زلزال لا نهاية محددة لارتداداته المفجعة؟

ربما كانت تلك الأسئلة مشروعة، لكن الحرب لا تقتصر على ميادين القتال والجثث والمفخخات، إنما تطبع بميسمها كل فعاليات ومظاهر الحياة، وتنعكس بأشكال متباينة على سلوك وتفكير وردات فعل الناس تجاهها، لذلك فهي تستدعي تعبيراً وتصويراً فنياً لانعكاساتها وآلامها وموقفاً منها سواء أكان اليوم أم بعد زمن ما، فذلك يرتبط باستجابة المبدع نفسه ومدى تفاعله وإحساسه واستشعاره وتنبئه بمسارات الحرب وتأثيرها، وقدرته على رؤية ما يستوجب الكتابة عنه.

من هنا فإن رواية الحرب على وجه خاص ليست مجرد رصد وتسجيل للوقائع اليومية، بل هي معنية في المقام الأول بالتوغل في تداعياتها العميقة على المستويين الاجتماعي والنفسي، وتصوير ما أحدثته من شروخ، ولعل ذلك ما يسوغ مشروعية الكتابة الآن لقول ما لم يقله أو يروِه الآخرون، وكشف الأعماق القصية والتحولات الخطيرة في المواقف والعلاقات الإنسانية بأساليب وتقنيات جديدة ومخيلة تكسر الرتابة والمألوف ولا تقف على السطح بقدر ما تجترح معجزتها في اكتشاف الجوهر وصياغته بما يحقق المتعة والتشويق والمعرفة ويرتقي بالشعور الإنساني إلى عرش النبالة والجمال ومحاربة النذالة والقماءة.

في المدونة الروائية السورية لهذه الحرب الدائرة ما يزيد على 150 رواية سورية وبضع روايات عربية، النوع الأول من هذه الروايات استعادة أحداث الصراع في الثمانينيات مع قوى التطرف الديني في سياق حبكة سردية تنسج خيوطها بين الأمس واليوم عبر علاقة الشخصية المحورية بمن حولها عاطفياً واجتماعياً، مكتفية بتسجيل وقائع معروفة عن الاغتيالات والتفجيرات والمواجهات المسلحة والمواقف المعلنة للقوى والأحزاب والتيارات السياسية، ونموذج هذا النوع رواية نبيل سليمان “مدائن الأرجوان” التي تجيب عن السؤال الأبرز: ما الذي يحدث في سورية؟ ويأتي الجواب من منظور الروائي ليس من مقاربة الحاضر بل بالعودة إلى الماضي.

وينجرف النوع الثاني من تلك الروايات إلى مستوى التقارير البعيدة عن فنية وجمالية العمل الروائي موجهاً خطابه السردي في سياق إيديولوجي مباشر محكوم مسبقاً بالعداء وتصفية الحسابات وليس بصدقية الفن، ولا يختلف هذا النوع من الأعمال عن ترسيمة الإعلام المعادي والمضلل الذي قلب الحقائق وفبرك الأحداث عن ربيع أسود كاذب اعترف صانعوه أنفسهم بأن الغرض مما حدث لم يكن ثورة ولا تحقيقاً للديمقراطية، بل خطة لإعادة رسم المنطقة وتجزئتها وإغراقها بالدم لتنصاع إلى القرار الأمريكي الصهيوني ملبية شروطه السياسية والاقتصادية، ويمكن إدراج عدد من الروايات ضمن هذا السياق منها رواية فواز حداد التي تستعيد أيضاً مرحلة الصراع في الثمانينات محملة الدولة كل الآثام التي ارتكبت فيها وصولاً إلى الحرب الدائرة اليوم والتزييف الذي يمارسه الراوي على مجرياتها بما يعزز الرؤية المعادية والمغرضة لحقيقة ما يجري.

واكتفت روايات النوع الثالث من رواية الحرب بدور الشاهد الذي يدون يومياته ومشاهداته على غرار ما دونه سابقاً البديري الحلاق من أحداث وماتعرضت له دمشق من نهب وخراب على يد الغوغاء ناظراً إلى الحرب كعمل بربري وانفلات للقوى الغريزية العمياء.

أما النوع الرابع من رواية الحرب فقد اتخذ منحى فلسفياً في فهم ما يحدث وتأويله عبر الحفر عميقاً في دواخل النفس البشرية ونزعاتها وما يعتريها من إحباطات وهزائم في الحب والسياسة محاولاً تلمس جذور العنف وأسبابه وصوره البشعة وتمثيلاته الواقعية والرمزية التي اجتاحت سورية، ومثال هذا النوع رواية حسن صقر “شارع الخيزران” قدم فيها عصارة تجربة إنسانية عميقة وشاهدة على زمن الحرب لينتصر لما تبقى فينا من إنسانية الإنسان وداعياً للارتقاء عن غريزة القتل المتأصلة. أما آخر نوع في رواية الحرب فهو تلك الروايات التي عايشت مرارة الفقد والمعاناة النفسية والقتل والتدمير، فانتصرت لحقيقة ما حدث ويحدث من أجل سورية واحدة موحدة ترابها وشعبها، ويمكن إدراج عدد من الروايات منها رواية “مفقود” لحيدر حيدر حيث يتحول فيها الكاتب إلى راوٍ لحكاية فقد واختفاء الجندي “يحيى”، وترى هذه الرواية أن الحرب تعبير عن صراعات طائفية ممتدة وعميقة، ورواية حسن حميد “لا تبكِ يابلدي الحبيب” هي تصوير فني في سياق واقعي تخيلي لما تعرّض له مخيم السيدة زينب، رواية ملحمية تكشف عن صمود أسطوري وحب عظيم وتضحيات لا حدود لها قدمها أبناء المخيم، ورواية “كتاب دمشق.. حاء الحب راء الحرب” لهزوان الوز تأتي على خلفية قصة حب عميقة، فهي رواية أشبه بالأنشودة تعزز الانتماء والصمود في زمن الحرب، ولا تخرج رواية صفوان إبراهيم “طابقان في عدرا العمالية” عن سياق الروايات المنحازة لحقيقة ما يحدث فهي تصوير فني واقعي.

وتبقى رواية “هوة في باب عتيق” لعلي محمود الرواية الأجرأ في مقاربة هذه الحرب حيث تكشف عما يحدث في العمق لا ما يطوف على السطح.

 

الرواية الأنثوية

الحرب واقع لا يستطيع الكاتب أو الروائي التلاعب بأحداثها وتفاصيلها، والحرب ليست قطع عسكرية وانتصارات وهزائم وإنما هي نتائج على النفس والثقافة والمجتمع والناس والاقتصاد وهذا ما يمكن أن يلتقطه الأديب أو الكاتب، وبدوره خصّ د.عاطف البطرس الحرب في المدونة السورية من قبل الروائيات السوريات بقراءة لنتاجاتها حيث قال:

إذا كانت الحرب بالشراسة التي رأيناها وعشناها -وهي أقسى وأوجع من أي متخيل- فكيف يمكن لأي كاتب أن ينجز نصاً سردياً ويوفر قيمتين للمتلقي المعرفة والمتعة أي تحريك الوجدان، فنحن نتحدث عن الحرب في المدونة السورية، والحرب جزء من الواقع، فهل تستطيع الرواية أن تنقل الواقع؟ أو أن تحيط بشموليته، وأن تصل إلى تعميمات نظرية عن الإنسان في علاقاته، هل الرواية كبنية وشكل تستطيع أن تقوم بهذا الدور، إذا اتفقنا على ذلك نصل إلى استنتاج أن المدونة السردية السورية استطاعت أن تواكب الحدث السوري.

الروايات التي اطلعت عليها -بقلم كاتبات- يحكمها ناظم من حيث الرؤية بمعنى هناك اتفاق أنها حرب عدوانية تركت تأثيرها على العلاقات كلها، لكن ما يؤخذ عليها إضافة إلى قدرة الكاتبة على رؤية الوقائع وعكسها هو المفهوم الانعكاسي، فهناك من يقول أن الأدب يعكس الواقع، وهذا المفهوم خاطئ فالأدب لا يعكس الواقع وإنما يمر عبر ذات الكاتب الإبداعية، فالانعكاس هو علاقة جدلية بين ذات مبدعة وواقع تنتج المنعكس وهو النص الذي نطلع عليه.

تعتمد الروايات على العنصر السيادي وهو مأخذ عليها، بمعنى أن بطلة الرواية هي المؤلفة تسرد جزءاً من حياتها أو بعضاً منه، وهذه لا تخص رواية نسوية وإنما مشكلة تخص نشأة الرواية العربية، والحقيقة بمقدار ما ينفصل كاتب الرواية أو المؤلف عن عمله، ويوهم بعدم علاقته بها يحقق اللعبة الفنية والهدف الأعلى من الرواية. هناك هيمنة لشخصية المؤلف منها “قلبي ما زال حياً” للكاتبة خلود أنيس إبراهيم تعرض علاقة حب استرجاعاً عبر رسائل الفيس بوك في غرفة المستشفى، والمطب هنا كيف لنا أن نقدم حرباً مهلكة في مكان مغلق. وتثير رواية “خواء” لرنا عبد الكريم سؤالاً هاماً مع رواية “مدن بطعم البارود” وهو إلى أي مدى يمكن للجنس الروائي أن يستوعب مقومات الشعر؟ بمعنى أن تستضيف الرواية العنصر الشعري أمر عادي، لكن طغيان بنية الجملة الشعرية على الجملة السردية يعطل الرواية.

ويضيف البطرس: “مدن بطعم البارود” لبشرى أبو شرار هي من أفضل الأعمال التي قرأتها، فهي تقدم شيئاً من المعرفة للقارئ من خلال رسائل متبادلة بين شاب عراقي وشابة دمشقية يتم استعراض تاريخ منطقة كاملة بكل ما جرى فيها بشكل جميل، وما يؤخذ عليها هو تعداد وكثرة أسماء الشهداء الذي لا يضفي شيئاً على بنية النص بل يفقده جزءاً مهماً، أما “الحنين إلى الخطايا” لسمية طليس فتناولت تأثير الحرب على الأسرة السورية وعلاقات الحب.

جمان بركات