العدوان الثلاثي بعيون بريطانية
إيهاب عمر
في 29 تشرين الأول 1956، نفّذت “إسرائيل” وبريطانيا وفرنسا بنود بروتوكول “سيفرز”، فبدأت “إسرائيل” الحرب التي عُرفت بـ”العدوان الثلاثي”، وسيطرت على شبه جزيرة سيناء وقناة السويس، واستمرت في خوض اشتباكات مع الجيش المصري.
ونص البروتوكول، وهو اتفاقية سرية بين الدول الثلاث تنسّق شكل ردّها على احتمال إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، على أن بريطانيا وفرنسا ستطالبان كل من الجيشين المصري والإسرائيلي بالانسحاب من محافظات إقليم قناة السويس (الإسماعيلية، بورسعيد، والسويس) في 30 تشرين الأول 1956، تمهيداً لإنزال عسكري للسيطرة على الممر التجاري المهم، بحجة الحفاظ على حرية الملاحة التجارية عبر القناة.
ولكن مصر رفضت الإنذارين البريطاني والفرنسي، فبدأت طائرات الدولتين الغربيتين بقصف القاهرة والإسكندرية ومحافظات إقليم السويس، في 31 تشرين الأول ، ثم بدأ الغزو البري لمحافظات القناة.
وفي الثالث من تشرين الثاني، وجّه الاتحاد السوفيتي السابق إنذاره الشهير للدول الثلاث. وكشف الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه “ملفات السويس”، نقلاً عن الوثائق البريطانية والأمريكية للأزمة، أن رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف هدد بعمل عسكري مضاد. وفي نفس الوقت، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية إنذاراً مماثلاً.
وفي السابع من تشرين الثاني ، قبلت الدول الثلاث بوقف إطلاق النار ودخلت قوات دولية إلى سيناء، وانسحبت بريطانيا وفرنسا من بورسعيد في 22 كانون الأول ولم تنسحب “إسرائيل” من سيناء إلا في 16 آذار 1957. احتفى عبد الناصر بالإنذار السوفيتي دون الأمريكي، وحصلت “إسرائيل” على حرية الملاحة في مضائق خليج العقبة دون إخبار الشعب المصري بذلك. ورغم أن العدوان الثلاثي أوضح عدم جاهزية الجيش المصري، تم الإبقاء على المشير عبد الحكيم عامر وزيراً للحربية واستمرت كافة القيادات في مناصبها بدون محاسبة. هذه هي باختصار قصة العدوان الثلاثي. ولكن بعيداً عن الرواية الشهيرة في الكتب العربية، فإن الوثائق البريطانية تقدّم تفاصيل إضافية.
بريطانيا تخوّفت من غدر “إسرائيل”
كان العدوان الثلاثي آخر ظهور لبريطانيا وفرنسا باعتبارهما قوتان عظيمتان، وأوضحت نتائج الحرب أن الصراع الدولي أصبح بين الأمريكيين والسوفيات، وعلى باقي دول أوروبا الغربية أن تتوارى خلف أمريكا.
وكانت باريس ولندن قد عارضتا فكرة تسليم الإرث الاستعماري والنفوذ الاستراتيجي لأمريكا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، ولكن مع نهاية العدوان الثلاثي، راحتا تنسحبان مقابل تقدّم نفوذ واشنطن حول العالم.
وكانت “الهزيمة” بداية سلسلة من الاضطرابات داخل الجمهورية الفرنسية الرابعة، أسفرت عن تعديلات دستورية قادها الرئيس الفرنسي شارل ديغول وأنتجت الجمهورية الخامسة، كما سقطت وزارة أنطوني ايدن في بريطانيا.
ويروي المؤرخ البريطاني “كيث كايل” في كتابه “السويس، نهاية الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط أنه خلال سنوات مقاومة لندن وباريس لحقائق الأمور، نظرت لندن تحديداً إلى تل أبيب باعتبارها المشروع الذي تمرّد على صاحبه، بعد أن تأسس على وعد بلفور ثم على انسحاب البريطانيين من فلسطين لصالح المستوطنين اليهود، وارتمى في حضن أمريكا على حساب الأجندة البريطانية.
واعتبرت لندن أن تأسيس الوحدة 101 كومندوز في الجيش الإسرائيلي عام 1953، بقيادة أرييل شارون، للعمل في الأردن بحجة ضرب المقاومة الفلسطينية مقدمة لالتهام “إسرائيل” للضفة الغربية والقدس وبالتالي ضرب النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط في مقتل. فقد كانت لندن تعتبر الأردن والعراق وقتذاك أهم مناطق نفوذها في الشرق الأوسط، وكانت حكومة إيدن ترى أن “إسرائيل” تتحرك وفقاً لأجندة أمريكية لتصفية الإرث البريطاني الإمبراطوري.
ووقع خلاف حاد داخل الحكومة البريطانية حول كيفية التصدي لـ “إسرائيل”. فقد رأى جناح أنه يجب القيام بعمل عسكري رادع ضد “إسرائيل” انطلاقاً من الأردن وقبرص، بينما اعتبر جناح ثانٍ أنه يجب إطلاق يد “إسرائيل” للعمل بالوكالة عن الغرب في الشرق الأوسط معترفاً بأن زمن الاحتلال البريطاني المباشر قد ولّى. واستخدم الفريق الثاني خطاب معاداة السامية للجم الفريق الأول، ولكن مع ذلك تم إعداد خطة لتدخل عسكري بريطاني ضد “إسرائيل”.
يروي كايل: “كان هناك تخطيط عسكري جاد في الوايت هول (مقرّ وزارة الدفاع) يدفع نحو حرب مع “إسرائيل”. أيّد رؤساء الأركان مخططاً مفصلاً حمل اسم العملية “كورداج” في 26 كانون الثاني 1956. وبموجبه، كان سيتم سحق سلاح الجو الإسرائيلي في مطاراته وتحطيمه من قبل وحدة جوية كبيرة تتمركز في القاعدة البريطانية في جزيرة قبرص، كما كان سيُفرض حصار بحري وستنطلق طائرات من حاملة طائرات لمضايقة سلاح الجو الإسرائيلي في السماء في وقت تغير قوات كوماندوس على طول الساحل، في مخطط للسيطرة على مدينة إيلات، نافذة “إسرائيل” على البحر الأحمر”، وذلك رداً على اعتداءات “إسرائيل” المتكررة على الأردن، آخر مناطق نفوذ بريطانيا في البحر الأحمر بعد الجلاء عن مصر عام 1954 ثم تأميم قناة السويس.
ويضيف إن المشير السير جيرالد تيمبلر (1898 – 1979) الذي يُعَدّ من أكفأ جنرالات الجيش البريطاني الإمبراطوري والذي شارك في الحربين العالميتين الأولى والثانية إضافة إلى توليه منصب الحاكم العسكري لأكثر من مستعمرة بريطانية ومنصب رئيس هيئة الأركان العامة الإمبراطورية والمستشار العسكري لأنطوني إيدن، كان من أشد مؤيدي فكرة التدخل لحماية الأردن على حساب “إسرائيل” ، وأثار نقطة اعتداءات أرييل شارون الوحشية على الأردن في اجتماع خاص، وأشار إلى وجوب مساعدة الأردن ضد “إسرائيل” .
والحاصل أنه أثناء العدوان الثلاثي، كانت الخطة المذكورة مفعّلة، بمعنى أنه بحال تقدّمت القوات الإسرائيلية إلى الأردن فإن بريطانيا كانت ستقوم بتأديب “إسرائيل” ومنعها من احتلال الضفة الغربية، دفاعاً عن آخر مناطق النفوذ البريطاني الاستراتيجي في المنطقة العربية.
وتم الاحتفاظ بقوات بحرية بريطانية كبيرة على أهبة الاستعداد، بموافقة إيدن الذي أيّد مستشاره العسكري في كافة مخاوفه من أن تغدر “إسرائيل” بلندن وتقرر مهاجمة الأردن بالتزامن مع مهاجمة مصر.
هكذا، خططت بريطانيا لضرب “إسرائيل” قبل مصر، قبل وأثناء العدوان الثلاثي، ولكن التطورات بعد بدء العدوان فرضت شكل سير العملية البريطانية ضد القاهرة.
وتُعتبر هزيمة بريطانيا في العدوان الثلاثي سقوطاً للفيتو البريطاني على سيطرة “إسرائيل” على الضفة الغربية، وهو ما تم في الجولة العسكرية التالية في حزيران 1967.
مخطط لقطع مياه النيل عن مصر
يكشف المؤرخ “مارتن وولكوت” في كتابه “بعد السويس: بدء القرن الأمريكي” أن الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور لم يغضب من التحرك البريطاني-الفرنسي بسبب عدم التشاور مع واشنطن فحسب ولكن لأنه لم يكن يفضّل التدخل العسكري المباشر وكان يرى أن الانقلابات السرية والحروب بالوكالة والعمل الاستخباراتي أفضل من الحروب المباشرة.
ويشير وولكوت في كتابه إلى محضر جلسة لمجلس الوزراء البريطاني يكشف عن مخطط استهدف خفض تدفق مياه النيل إلى مصر حتى يتخلى عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، بالترافق مع خطة إعلامية يجري تسويقها بين “المصريين الأميين”، بحسب الوثيقة.
ومضمون الخطة هو أنه إذا لم يتنازل عبد الناصر أمام مطالب بريطانيا، فإن لندن سوف تقطع مياه النيل عن مصر ما سوف يؤدي إلى فوضى اقتصادية عارمة بين المصريين لأن اقتصاد مصر زراعي في المقام الأول.
وتقوم الخطة على تعديل سد مُقام بالفعل في أوغندا، هو سد “أوين فالس” على ضفاف بحيرة فيكتوريا المنبع الأول لنهر النيل، وهو سد لإنتاج الكهرباء لا يزال موجوداً في أوغندا حتى اليوم بدون التعديلات البريطانية التي لم تُنفّذ.
“إسرائيل” شاركت دون علم أمريكا
ويذكر وولكوت أن مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون في العدوان الثلاثي تمّت بدون إخطاره أمريكا. ورغم عدم تحمّس تل أبيب للعمل مع بريطانيا لولا فرنسا، فإنها كانت تحاول نسف محاولات أمريكا لدمج النظام المصري الجديد في المعسكر الغربي.
ويشير وولكوت إلى أنه سبق لـ “إسرائيل” أن رتبت سلسلة من العمليات الإرهابية ضد المصالح البريطانية والأمريكية في مصر ولكن السلطات المصرية قبضت على الخلية التي تألفت من شباب يهود مصريين مؤيدين لـ “إسرائيل” ، في ما يُعرف بفضيحة “لافون”، نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون.
ويوضح أن تل أبيب لم ترغب في نشأة علاقات جيدة بين مصر وأمريكا، كما أنها سعت إلى عرقلة الجلاء البريطاني عن مصر، وقد قبِل بن غوريون بأن تكون “إسرائيل” مخلب قط لفرنسا وبريطانيا من أجل إعادة الاستعمار إلى مصر وإعادة احتلالها من جديد.
عامل النفط في العدوان الثلاثي
أضاءت كتب التاريخ العربية على رفض بريطانيا الجلاء عن مصر أو قناة السويس، وعلى رفض فرنسا تأميم شركة قناة السويس والدعم المصري لثورة الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، ولكنّ عامل النفط لم يكن ظاهراً في هذه المؤلفات.
في آب 1956، نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية تقريراً بعنوان “بريطانيا وقناة السويس” كتبه الباحث دونالد وات وكشف فيه عن تصوّر الحكومة لمنطقة السويس. يكرر التقرير الذي أورد وولكوت مضمونه في كتابه المشار إليه سابقاً الحديث عن الضرورة الاستراتيجية لقناة السويس بالنسبة إلى المملكة المتحدة، إذ يمرّ عبرها ثلثا النفط الذي تستورده أوروبا الغربية، إضافة إلى أنها تمنحها القدرة على نقل جنود من أستراليا ونيوزيلاندا وبعض قواعد بريطانيا في الجنوب إلى أوروبا بحال نشوب حرب في وسط القارة الأوروبية بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. وبعد خسارتها قناة السويس، وحتى برغم الاتفاق على حرية الملاحة واستمرار تدفق النفط عبرها، عمدت بريطانيا إلى إيجاد بدائل عن هذه القناة.
وبحلول عام 2000، كانت بريطانيا تستقبل 8% فحسب من نفطها عبر قناة السويس. فرغم مرور نصف قرن على العدوان وتغيّر معادلات العلاقات المصرية البريطانية، إلا أن هدف التخلص من هيمنة قناة السويس على طريق النفط الذاهب إلى بريطانيا ظل قائماً.