ثقافةصحيفة البعث

سوقيات الأرمن في دير الزور – في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين

 

ارتأت د. نورا أريسيان أن تقدم للقارئ العربي دليلاً تاريخياً جديداً على الوجود الأرمني المتأصل في سورية وبالتحديد في منطقة دير الزور التي شهدت على موت قوافل الأرمن بأساليب فجائعية، وأعيدت الجريمة بالحرب الإرهابية على سورية التي قتلت البشر ودمّرت كنائس الأرمن. وقد جمعت أريسيان بين التوثيق والتحليل والتصنيف والتبويب بدقة مع بعض الشواهد التي تصف انتقام الأتراك من الأرمن مبتعدة عن توصيف الإبادة لأن محور الكتاب هو توثيق الوجود الأرمني.

دير الشعائر
بدأت الكاتبة بالتعريف بموقع دير الزور التي كانت تدعى دير الرمان وهي مدينة كبيرة ذات أسواق للبادية بين الرقة والخابور تنزلها القوافل القاصدة من العراق إلى الشام، إضافة إلى تسميات متعددة مثل دير الرهبان ودير الشعار لكثرة شعرائها، وتعود تسمية دير الزور إلى عام 1864 حينما جعل العثمانيون من الدير مركزاً لسنجق لواء، وعادت الكاتبة إلى التاريخ القديم فذكرت أهم الشخصيات التي زارت الدير مثل الخليفة هارون الرشيد والملكة زنوبيا والأب يسوعي جاكوب فيليوب، وتابعت عن تاريخ دير الزور الحافل بالثورات ضد العثمانيين والتي اتخذت بين عامي 1914حتى عام 1918 مواقف نضالية لمقاومة الاحتلال العثماني. وقد حفلت دير الزور بالمواقع الأثرية والجسور، لتصل إلى سكانها الأصلاء وإلى الأقليات التي استقرت فيها في زمن الاحتلال العثماني واختلط الجميع بالمجتمع الديري وتعايشوا معه.

قوة البدو
اعتمدت الكاتبة على دراسات عدة منها مؤلفات المؤرخ عبد القادر عياش الذي بيّن بأن عشائر الفرات حافظت خلال الحكم العثماني على كيانها العربي ولغتها ومقوماتها، إلى أن ساءت الأحوال خلال الحرب العالمية الأولى بسبب المجاعة والأمراض وتجنيد أبنائها.
الفكرة الهامة التي ركزت عليها الكاتبة هي قوة البدو الذين تصدوا بقوة للجنود العثمانيين، وفي السبعينيات من القرن التاسع عشر منحت السلطات العثمانية دوراً حكومياً لشيوخ العشائر. ونشطت دير الزور كمركز تجاري يتحكم بالفرات الأوسط، ووضعت الحكومة العثمانية فيها قوة عسكرية لتخمد التمرد في المنطقة.
المحور الأساسي للكتاب يتناول الوجود الأرمني في دير الزور معتمدة على المصدر الأول “المصادر الأرمنية التي تتناول الوثائق”، منها سلسلة كتب”تيوتيك” فبعد استقرار الألمان في المنطقة أنشؤوا محطة برقيات لاسلكية على مقربة من الجسر الكبير على ضفة مابين النهرين، وكان تيوتيك جندياً ومترجماً ووظيفته أن يجلب إلى محطة البرقيات اللاسلكية نسخة من البرقيات المرسلة كل يوم، فكتب في كتابه “تقويم الجميع” عن العبور من المدينة إلى مابين النهرين من خلال جسر صغير، وكان العرب يمرون بحرية، لكن “كان ممنوعاً للأرمن العبور دون وثيقة أو إذن للسماح”، واستشهد بشهادة الناجي الأرمني بالزي البدوي ساهاك ميسروب تحت عنوان”مجزرة دير الزور” فكتب”هي مقبرة كبيرة للأرمن الشهداء” ووفق المعلومات التي حصل عليها تيوتيك من موظف الإحصاء محمود الأورفلي فإن الأرمن بلغوا 360 ألف نسمة.
وفي وثائق الصحفي والمؤرخ الأرمني آرام أندونيان بعنوان الجريمة الكبرى “مجازر دير الزور” كتب تصفية زكي بيك 200 ألف أرمني. وكذلك مذكرات المفكر الناجي ليفون ميسروب بعنوان دير الزورعن الناجين من المجازر وكيف يعيشون بفقر في الخيم وحياة ترحال كالبدو.

الطبقات الاجتماعية للأرمن
وقد انقسم الأرمن إلى طبقات اجتماعية نتيجة المجازر، فعدد ضئيل استقر في دير الزور قبل عام 1915، وأصبحوا أصحاب محال وحرفيين، والطبقة الثانية من الأرمن المهجرين حافظوا على هويتهم وكانوا جزءاً من المجتمعات الأرمنية في بلاد الرافدين، أما الطبقة الثالثة فتشكلت من النساء اللواتي تزوجن من العرب في البادية المجاورة لمدينة دير الزور، وهناك أرمن تعربوا بشكل جزئي أو كلي ، وأرمن بدو عاشوا بالخيم.
تمتع الأرمن في دير الزور بالاستقرار فكان لديهم كنيسة حديثة ومدرسة ومكتبة وأفرع لجمعيات خيرية كالجمعية العمومية والصليب الأحمر. وأوردت الكاتبة جداول تظهر مقارنة بالمناطق بين المهجرين الجدد والقدامى بين عامي 1923-1924، وعددت الأرمن الذين جاؤوا من أورفا وديكرانا كيرد وماردين وبشيريك، إذ بلغ عدد الأرمن في جرابلس على سبيل المثال 2000، والقامشلي 1200، ودير الزور 600 وغيرها.وظهرت مدارس أرمنية في مناطق شمال شرق سورية وشمال غرب سورية.
واستعرضت الكاتبة وقائع زيارة كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس لبيت كيليكيا بابكين الأول بزيارة رعوية إلى دير الزور عام 1934، ووثق الزيارة الباحث بوزانت يغيايان” دير الزور .. مسلخ الأرمن اسم تقشعر له الأبدان بالنسبة للأرمن ومازالت تلك القشعريرة تسري في أوردتنا كالحمى”.
وتنتقل الكاتبة إلى الوجود الأرمني في المصادر السورية فبدأت بمؤلفات أحمد وصفي زكريا الذي دوّن مذكراته وهو اختصاصي زراعي وضابط في الجيش العثماني تمّ إيفاده إلى منطقة الفرات عام 1916، من أجل مكافحة الجراد فأصبح بانتقالاته من دمشق إلى حلب إلى دير الزور شاهد عيان على المجاعة والأمراض، فتحدث عن وصفه منطقة كيليكيا ووصف الأرمن بأنهم من الشعوب النبيلة، ومن أهم مؤلفاته “ذكريات حول الفرات عام 1916، فسرد عواقب عمليات التهجير والإبادة منذ عام 1909” كثُر تهافت النازحين إلى الجزيرة سنة 1347، وهؤلاء النازحين هم من مختلف الطوائف والأديان كالكرد والسريان واليزيدية والأرمن. وفي كتابه “رحلة إلى الفرات” وصف مخيم الأرمن في قرية أبي هريرة وكان المخيم يتألف من مئات الخيام المخروطية المصفوفة والممتلئة بالرجال والنساء والأطفال، تسمع هريرهم كدوي النحل. وتعود الكاتبة إلى زكريا بوصفه حي دير العتيق القديم بشوارعه وبيوته المصنوعة من اللبن الناشف أو الحجر وغرفه القليلة ذات النوافذ النادرة، ويؤكد أن الأرمن حين وصلوا مهجرين سكنوا في هذا الحي.

نشاطات الأرمن
ويوضح رشيد رويلي أسباب وجود الأرمن في دير الزور عام 1916، وقد برع الأرمن بالمجال الطبي مثل أطباء الأسنان خاصة مثل كريكور يرانوسيان، وهانان ستيبان طوسونيان، والقابلة القانونية أغني سار ديويلور، كما أسهموا بالمجال الرياضي فشاركوا بنادي الكوخ الرياضي، واشتهر الأرمن بمهنة الخياطة، والفضيات وبمجال الفنون.
ثم اعتمدت على دراسات الصليبي الذي أكد وجود الأرمن في المنطقة منذ عام 1890 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى مؤكدا أن الأرمن يميلون إلى العمل الصناعي، وخصص فصلاً بعنوان مذابح الأرمن بيّن فيه تواريخ هجرة الأرمن بسبب اضطهاد الأتراك ” يعود وجود الأرمن في سورية إلى عصور مغرقة في القدم ففي عام 539 جرت هجرة الأرمن الأولى إلى 1895 وتتالت الهجرات إلى 1920.

الصحافة السورية
واستعرضت شهادات من الصحافة السورية حول الوجود الأرمني وفق التسلسل الزمني منها،صحيفة المستقبل بين عامي 1916-1919 التي نشرت أكثر من سبعين تتعلق بالإبادة الأرمنية، إضافة إلى شهادات من شخصيات من دير الزور مثل أحمد شوحان. وأنهت كتابها بصور لكنيسة الشهداء الأرمن بعد تحرير دير الزور من الإرهابيين تصوير أحمد الحمدوش في 4-11- 2017. صدر الكتاب عن دار الشرق.

ملده شويكاني