“كافكا على الشاطئ”.. حكاية أشبه بأسطورة وحياة أقرب إلى حلم
“يفتح ناكاتا الباب ليخرج، لكنه يتوقف ويلتفت مجدداً نحو الشرطي قائلاً: عفواً هل ستكون هنا غداً مساءً؟. وعندما يجيبه الشرطي بنعم يبادره ناكاتا بالقول: “احرص على أن تحضر معك مظلتك حتى لو كان الجو مشمساً” ويكمل:”سيسقط سمك من السماء مثل المطر، سمك غزير سيكون سرديناً على ما أظن مع بعض الأسقمري”.
في اليوم التالي هطل سمك السردين والأسقمري من السماء بغزارة على جزء من المدينة، لقد تحققت نبوءة الرجل، بل سيكشف اليوم التالي عن الجزء الأهم من كلام ناكاتا البسيط الذي بدا للشرطي أقرب إلى الأبله، سيكشف اليوم التالي أن هناك جريمة قتل حدثت وإن لم تكن الضحية هي ذاتها التي أبلغ عنها ناكاتا، ستكون جريمة قتل النحات العالمي الشهير كوتشي تامورا والد الشخصية الرئيسية في الرواية الراوي كافكا تامورا.
سيعرف الفتى بالأمر من أوشيما الرجل الذي احتضنه في الفترة الأولى لهروبه من المنزل، لم يتأثر كافكا كثيراً وعلق على الحادثة بالقول: أنا حزين ولكن أسفي الحقيقي أنه لم يمت قبل هذا بوقت طويل.
يقول له أوشيما “لقد رأيت عمل أبيك مرات عدة، نحات رائع، قطعه أصيلة، مثيرة وقوية، كان أبي يقول كافكا تامورا مثل سمّ لا يمكنك الهرب منه، يلوث كل شيء لمسته يداه، ودمر كل من اقترب منه، أشعر أنه كان متصلاً بشيء ما غير عادي”.
ويتساءل:ولكن نبوءة أبيك لم تتحقق، أليس كذلك؟ أنت لم تقتله، كنت هنا في تاكاماتسو عندما قتل، قتله شخص آخر في طوكيو.
يفرد كافكا يديه في صمت ويحدق بهما، تلك اليدان كانتا في ظلام الليل مكسوتين بالدماء، يخبره بقصة الحلم والمعبد، لا أعرف كيف وصل إلي هذا الدم، ولا دم من؟ قد أكون قتلت أبي فعلاً، لدي إحساس بأني فعلتها، كنت في تاكاماتسو، ولكن في الأحلام تبدأ المسؤولية أليس كذلك”.
الهارب
“كافكا على الشاطئ” اسم لأغنية هي العمل الوحيد لساييكي كانت كتبتها لحبيبها في سن المراهقة الذي قتل في واحدة من انتفاضات الطلاب، بعدها ستتوقف الفتاة عن الكتابة والغناء وتعمل مرشدة في مكتبة ستكون مأوى الراوي حين قرر في عيد ميلاده الخامس عشر مغادرة المنزل،في رحلة هروبه تلك وأمام كل حدث واجهه وشخص قابله كان الفتى يبحث في عقله الباطن عن طيف شقيقته ووجه والدته التي رحلت عنه برفقة أخته المتبناة تاركة إياه هو ابنها الحقيقي، هكذا يستجيب لتعليمات “كرو/ الغراب” صديقه المتخيل يأخذ من الحاجيات والمال ما يلزمه وينطلق إلى تاكاماتسو يقيم في فندق المدينة لفترة قصيرة ثم يبدأ مسيرة البحث عن معنى الحياة والقدر ويتذكر ما قاله له “كرو/الغراب” قبل الرحيل:”القدر كعاصفة رملية لا تنفك تغير اتجاهاتها، وأنت تغير اتجاهك، لكنها تلاحقك، تراوغها مرة بعد أخرى، لكنها تتكيف وتتبعك، تلعب هكذا مراراً، كرقصة مشؤومة مع الموت في الفجر، لماذا؟ لأن هذه العاصفة ليست شيئا يهب فجأة من بعيد، ليست شيئاً لا يمت لك بصلة، إنها أنت، شيء في داخلك، وكل ما عليك فعله هو أن تستسلم لها، ادخل إليها مباشرة، أغمض عينيك، وسدّ أذنيك حتى لا تتسلل الرمال إليهما، وسر في العاصفة، خطوة بعد خطوة، ليس من شمس هناك ولا قمر، ولا اتجاهات، ولا إحساس بالزمن، فقط دوامة من الرمال البيضاء الناعمة تصعد إلى السماء كعظام مطحونة، هذه هي العاصفة التي عليك أن تتخيلها”.
وعليك أن تنجو وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية. الخطأ ممنوع، ولحظة انتهاء العاصفة لن تتذكر كيف نجوت أو كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا ستكون متيقناً من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها” سيتعرف كافكا على ساكورا أثناء الرحلة ويلجأ إليها حين يقع في أول ورطة تواجهه في إقامته الجديدة، وفي المكتبة “المكتبة هي المكان الذي كان يبحث عنه طوال حياته، مخبأ صغير في مكان ما” المخبأ الذي يحتاجه ولن يفكر والده بالبحث عنه بين جدرانها، هنا سيتعرف على السيد أوشيما الذي سيحتضنه ويرشده في الكثير من خطواته ويلقي عليه درسه الأول في الحياة الجديدة:”في عالم الأساطير لم يكن الناس ينقسمون إلى رجال ونساء، بل إلى ثلاثة أنواع، رجل/رجل، رجل/امرأة، امرأة/امرأة، بمعنى آخر كان كل شخص شخصين وكان الجميع سعيدين بهذا دونما كثير تفكير، ثم أخذ الرب سكيناً وقطع الجميع إلى نصفين متساويين تماماً، فصار العالم منقسماً فقط إلى نساء ورجال وهكذا صار الجميع يقضون أعمارهم سعياً كل وراء نصفه الآخر”.
ناكاتا والقطط
كافكا كان المحور الرئيسي لكن ناكاتا لم يكن محوراً اقل أهمية منه وعبره حملت الرواية هماً سياسياً وإنسانياً لم تزل هيروشيما وناغازاكي تذكّران العالم به، العجوز الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة ستترنح ذاكرته ما بين زمنين من أزمنة الرواية الغرائبية، هو الطفل ابن التاسعة الذي تعرض مع عدد آخر من زملاء مدرسته لحادثة إغماء لم يتم تفسيرها في فترة الحرب العالمية الثانية يستعيد الجميع وعيهم سريعاً ليبقى هو فترة طويلة في غيبوبة يفقد بعدها ذاكرته تماماً لكنه يكتسب مهارة التكلم مع الحيوانات وقراءة المستقبل، ستتخلى عنه عائلته فيعيش على معونة الدولة وصداقة القطط التي باتت الوحيدة التي تفهمه، تقول إحداها لناكاتا “أنا أيضا لا أقرأ ولا أكتب.. ربما لا تحتاج إلى القراءة والكتابة إلا بمقدار ما تساعدك على فهم ذاتك، وإدراك الحياة والعالم” سيتعرف يوماً إلى الآنسة ساييكي التي انتظرته طويلاً، ويرحل بعد أن تنتقل قدراته الغريبة إلى هوشينو الذي رافقه في رحلته الأخيرة.
حكاية أشبه بأسطورة وحياة أقرب إلى حلم، عالم غرائبي لرواية يقدم اسمها لأجوائها الغامضة، فيمزج بين الواقع والخيال، شيئاً من أجواء ماركيز والكثير من كليلة ودمنة وبعضاً من ألف ليلة وليلة، يأخذ القارئ إلى الأسطورة حيناً، ويعود به إلى الواقع حيناً آخر ليعيش صراعات شخصياته ويعاني أفكارها وتناقضاتها، ورغم أزمنتها المتعددة والعوالم التي أدخله فيها موراكامي صاحب الرواية إلا أنه يخرج منها بفهم أكبر لذاته وإجابات غير مباشرة لتساؤلات أكثر عمقاً لا بد شغلته عن معنى الحياة وجدواها، بل لعله يخرج منها بكثير من القلق الفكري يعيد الحياة لزوايا العقل النائمة، ما أعطى الرواية قيمة مضافة إلى الحبكة متقنة السحرية بأحداثها ذات النهايات المفتوحة على العديد من الاحتمالات. أضف إليها كماً من المعلومات التاريخية والفنية والموسيقية التي انسابت على لسان الشخصيات بسلاسة وسهولة، والكثير من المفاهيم الفلسفية أتت بسيطة عفوية حمالة أوجه غير عصية على الفهم “السماء نفسها تبدو مُنذرةً بالشؤم في لحظة، ومُبتسمةً بترحاب في لحظة أخرى؛ يعتمد الأمر على الزاوية التي تنظر منها”.
حين يعود كافكا من رحلته الأخيرة في الغابة والتي أخذته إلى عالم آخر لا ينتمي إلى عالمنا الأرضي متحرراً من كل تلك الإضافات التي عقدت الحياة البشرية، عالم كاد يعلق فيه لكنه نجا في اللحظة الأخيرة، لن يجد من يلجأ إليه سوى صديقه المتخيل “كرو الغراب” يبدد مخاوفه “مازلت لا أعرف شيئاً عن الحياة” فيجيبه كرو بالقول:”الأفضل أن تنام قليلاً، وحين تصحو، ستغدو جزءاً من عالم جديد، تغفو وحين تصحو تجد هذا حقيقياً، لقد غدوت جزءاً من عالم جديد تماماً”.
بشرى الحكيم