مهن مؤقتة تزاولها النساء من أجل تأمين لقمة العيش وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي الأسري
مع بداية كل فصل شتاء تقوم أم محمد، السيدة التي بلغت من العمر ما يقارب خمسة وخمسين عاماً، بالتردد على الحدائق الموجودة في مدينة دمشق، وخاصة حديقة تشرين التي تقع بجوار جبل قاسيون، والتي تشتهر بمساحتها الشاسعة، الحديقة الأكثر شهرة لدى معظم السوريين، والتي عرفت عنها مساحتها الكبيرة جداً، ما جعلها محط أنظار آلاف السوريين الهاربين إليها ليتخلصوا من تعب نهار طويل، إما لاستنشاق الهواء النقي لوجود مئات الأشجار فيها، فهي بمثابة الرئة لمدينة دمشق، أو لممارسة الرياضة، أو غيرها من النشاطات، أما أم محمد فترددها على الحديقة، خاصة في هذه الأيام، من أجل الحصول على أكبر كمية ممكنة من الحشائش التي تنبت في الحديقة، ومن ثم أخذها إلى أحد الأسواق الشعبية في منطقة البرامكة، أو عند الشارع الممتد بين جسر الثورة وسوق الحميدية، حيث تقوم هذه السيدة هناك بافتراش الأرض، وعرض ما تيسر لديها من بضاعة قامت هي بنفسها مع سيدات أخريات بجزها.
تقول أم محمد: “الشغل مو عيب، العيب هوي إنك تكون قادر على الشغل وتمد ايدك لغيرك ليساعدك”، أم محمد جدة لطفلين تخلت عنهما أمهما بعد أن توفي والدهما عندما سقطت عليه قذيفة هاون أثناء تواجده في أحد أسواق الخضروات المعروفة عند تخوم العاصمة، تقول بعد تنهيدة وحسرة: وجدت نفسي وحيدة لا حول لي ولا قوة دون معيل في بيت صغير في منطقة الزاهرة القديمة، لذلك قررت أن أقوم بإحضار الحشائش مع حفيدي الصغيرين، فهما يساعدانني ببيع الحشائش، وبعض الخضروات الأخرى حالما يعودان من مدرستهما، أو في فترة الصباح عندما يكون لديهما دوام مسائي في المدرسة، والحمد لله “مستورة”، تضيف بحسرة وحزن كبيرين، المهم لدي ألا أطلب أو أحتاج أحداً، صحيح الذي أكسبه لا يكفي، ولكن أشعر أن فيه بركة تمنحني الكثير من الطمأنينة والسكينة، فأنا، إضافة إلى عملي المؤقت هذا، أعمل بحرفة الخياطة، ما يمكنني من توفير وإصلاح الملابس القديمة، وبالتالي أستطيع أن أوفر على نفسي ثمن شراء الملابس الجديدة لحفيدي، والتي لا قدرة علينا لشرائها، مختتمة حديثها بالكثير من الدعاء، والقليل من الفرح.
إصرار على التحدي
ليس بغريب أبداً على المرأة السورية إصرارها وقدرتها الكبيرة على تحدي الظروف والصعاب مهما بلغت قساوتها، كيف لا وهي التي واجهت أشرس حرب شنت عليها، فلولا صمود تلك المرأة لما استطاع المجتمع بأكمله مجابهة أقسى وأصعب الظروف، فهي كانت دوماً الأم، والأخت، والزوجة، والسند الذي يتكىء عليه الرجل، وهذا ما لا يستطيع أحد نكرانه، ففي نهاية شارع فخري البارودي المجاور لسوق الحميدية، والقريب من منطقة الحريقة سيدتان سوريتان مسنتان تقومان بمساعدة رجل في نهاية الأربعينيات من عمره، وتقومان بعجن العجين وتحضيره ليصبح جاهزاً لصناعة الفطائر وبيعها للمارة، لم ترغب إحدى السيدتين بالحديث، بينما لم تمانع السيدة الأخرى التواصل معنا، موضحة أنها لا تشعر مطلقاً بالإحراج من جلوسها على ناصية الطريق، وقيامها بعجن العجين، مضيفة: “أنا مرا كبيرة ما بيطلع بايدي أشتغل شي أكتر من هيك”، وهذا العمل يكفيني ويمنحني القليل من الأمان، تقول تلك السيدة الفاضلة: سيدة مسنة بمثل عمري أين يمكن أن تذهب إذا ضاق عليها الزمن، لا توجد أماكن مخصصة للاعتناء بكبار السن، وأنا أخاف العزلة والوحدة والحاجة، وحتى إن وجدت تلك الأماكن فهي قليلة.. “نحن بدنا ننستر بآخر عمرنا بس مو أكتر”.
الكثير من الزبائن
أما أم تحسين، السيدة المعروفة في سوق التنابل الشهير الموجود في منطقة الشعلان، والتي تقوم مع بداية كل موسم بتحضير مونة المكدوس وبيعها لأصحاب المحلات في السوق، فتتحدث عن عملها بكثير من السعادة، فهي اليوم أصبحت معروفة عند معظم التجار في السوق آنف الذكر، والكثير من الزبائن باتوا اليوم يطلبون شراء مونة المكدوس من عندها حصراً لتميزها بعمله ومذاقه اللذيذ، فهي تنتظر هذا الموسم مع بداية كل خريف لأنه يؤمن لها دخلاً جيداً، مع العلم أنها كانت تجني مبلغاً لابأس به قبل الحرب، ولكن اليوم ما تجنيه بالكاد يسد ثمن المواد اللازمة لتحضير هذه الأكلة الشعبية المحبوبة من قبل معظم السوريين بسبب ارتفاع الأسعار، وخاصة الجوز، والفليفلة الحمراء، مضيفة: مع ربح قليل، ما أجنيه من المال لقاء عملي هذا يشعرني ببعض الراحة، ومع ذلك الحمد لله على كل حال.. “بيضل وضعي أفضل من غيري”، مختتمة حديثها وهي ترتب أغراضها للعودة لمنزلها.
إيجاد الفرص
اختلاق الظروف المناسبة وتطويعها لإيجاد فرص عمل ليس حكراً على الرجال، وما تقوم به الكثير من النساء السوريات اليوم أكبر دليل على قدرة المرأة على إثبات نفسها ككيان قادر على الاستقلال، والاعتماد على نفسه، وخير مثال تجارب الكثير من السيدات السوريات المكافحات، وما مررن به من حرب مكنت الكثير منهن من مزاولة مهن، وإثبات الذات، فبرهنت المرأة السورية يوماً بعد يوم قدرتها على التحدي والتأقلم مع الظروف مهما بلغت صعوبتها، كما أن وجود نماذج لنساء سوريات كاللواتي تحدثنا عنهن كفيل بأن يجعلنا نشعر بالثقة بأننا سنستطيع بناء جيل قادر على الاعتماد على نفسه، فالأم التي تزرع في نفوس أبنائها حب العمل، ومن ثم الثقة الكبيرة بالنفس، وعدم انتظار الشفقة، أو طلب المساعدة من أحد، والاعتزاز بالكرامة، ستكون حتماً الكفء لبناء جيل نعتمد عليه لبناء بلدنا في القادم من الأيام.
لينا عدرة