عفيف البهنسي..!
حسن حميد
أذكر، وفي أيامه الأخيرة، كان د. عفيف البهنسي رجل العلم، والحضارة، والعمارة، والجمال، والفن.. أشبه بطائر اعتلى الريح وهو يسأل عن موعد صدور كتاب /المذكرات/ الذي يبدي جوانب سرانية في حياته، وجوانب زاهية من حياة دمشق وعمرانها وأهلها، وجوانب داهشة من تاريخ سورية وحضارتها على الرغم من كل ما مرّ بها من نائبات ورياح وسموم.
بدا، وكلما هاتفته أو التقيته، في أحاديثه الهادئة الوازنة والملأى بالودادة والمعرفة، مهموماً بصدور هذا الكتاب الذي في طيه الروح التي مشى بها منذ عام ولادته 1928، وحفظها من كل حسد وضغينة، وخاف عليها من أن تذبل أو تصفرّ، وكأن هذا الكتاب هو كتابه الوحيد المنتظر، وهو الذي له مئة كتاب وأزيد طوّفت في الأماكن الظليلية في فضاءات التاريخ، والعمارة، والتراث، والفنون.. على اختلافها وتنوعها، والآداب وما فيها من سحر وأفياء، والجمال وما فيه من قوة طاردة لكل فاحم أسود قبيح، وهو الذي له مكانته على مسرح المعرفة، فقد مشى بلدان العالم من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب قارئاً للحضارات، وحاملاً لمشعل التنوير والمحبة، وشاعراً يقطر محبة وعلماً وهو يتحدث عن سورية ضفة شرق المتوسط العاشقة للإبداع، دارة الحضارات المتواليات، والعلوم المترادفات، والجمال الذي غدا بساتين وكُتباً وودادات ساحرة.
مئة كتاب وأزيد تخاطفتها الجامعات، وأيدي أهل الثقافة، وقلبه علوق بالكتاب الجديد انتظاراً وأسئلةً، ومئة جامعة وأزيد درّس فيها وحاضر، وروحه نداهة للعلم والمعرفة، وخطاه رغوبة بقاعات الدرس والعلم، وثلاثون متحفاً للآثار العريقة أسسها في جميع أنحاء سورية، احتشدت بما يذهل ويدهش، وتمتماته تبوح بأنه قصّر وما استوفى ما تنادي به همته الجلواء، وبصماته في الرسم، والعمارة، والتاريخ، والأدب، والجمال، والخط، والمنمنمات، والترجمة، والنقد.. وافيات ضافيات فيهن إشراقة الضوء، وعافية المعرفة، ومع ذلك يقول: غرر بنا الوقت وخادعنا، ولم نقل كلمتنا بعد.
بلى، هذه هي النفوس الكبار التي تتعب من لوبانها دروبُ الحياة، وليست الأجساد فحسب، لأن العشق محض سؤال، فحواه العطاء بلا حدود، والاشتقاق من دون أوهام، والعمل من دون مواعيد وارتباطات بليل أو نهار، أو علوق بصحو أو مطر، د. عفيف البهنسي هذا النبت السوري المشبع بالضوء، والنداوة، والبريق، كان، ولا يزال، حياة للطموح من جهة، وحياة للعشق الذي لا يوازيه عشق من جهة أخرى. بدأ حياته خريجاً في دور المعلمين، ثم مضى إلى الجامعة فحاز شهادتها في الحقوق، ومضى إلى التاريخ والفنون فحاز شهاداتها من أهم أمكنة المعرفة في فرنسا، أخذ شهادة الدكتوراه، ثم عززها بشهادة دكتوراه دولة في زمن كان حملة شهادات الإعدادية يعدون أنفسهم فرساناً للمعرفة. ومضى إلى التاريخ فكان حامل معرفته، وإلى الفنون فجال فيها رسماً، ونحتاً، وألواناً، وخطوطاً، ومنمنمات، وكشفاً، ومصطلحات، فأسس لمعاجمها، مثلما أسس كلياتها، ونقاباتها، والأروقة التي تدور الحوارات فيها وحولها، ومضى إلى المؤتمرات والملتقيات فكان سيد الحضور، وسيد الثقافة، وطارح الأسئلة المشدودة إلى البناء والمستقبل في آن.
وعدا عن هذا كله، وهو كثير وغني، كان د. عفيف البهنسي ابن بلد أصالة ومعنى، قلبه يتوهج بالروح العروبية على الرغم من كثرة الأحزان والجروح التي عاشها، لكن عارف التاريخ يدرك أن كل هذه الكواره ليست سوى كبوة، والنهوض العربي قادم لا ريب.
د. عفيف البهنسي واحد من طينة الخزف المعرفي الذي تشبع بالضوء، والصفاء، والألوان، فكان ضفة أخرى من ضفاف المتوسط، والفرات، والخابور، واليرموك، والعاصي، والسن، والرقاد، ونهر الأردن.. بما عرفه، وبما أنتجه من غنى وجمال.. وحضارة!
Hasanhamid55@yahoo.com