فشلت قبل أن تبدأ
مهما كانت الدوافع وراء زيارة ولي العهد السعودي المرتقبة إلى تونس والجزائر وموريتانيا. وسواء كان محمد بن سلمان يريد تبييض سجله الإجرامي الحافل وتلميع صورته القاتمة، أو كان يريد، بما يملك من أوراق الترغيب والترهيب، إلحاق تلك الدول بالمشروع الامبريالي الصهيوني الذي يتولى تسويقه بحماسٍ نال عليه شهادة رضا من الرئيس الأمريكي المتصهين ، وسواء كان الأمير السعودي يريد تحقيق الهدفين معاً وإطلاق قطار التطبيع مع العدو الصهيوني في مغرب الوطن العربي على غرار ما فعل في مشرقه، فإن من المؤكد أن هذه الزيارة لن تنجح في تحقيق ما يصبو إليه ، بل يمكن القول إنها قد فشلت قبل أن تبدأ بفعل موجة الرفض والاستنكار التي اجتاحت الدول المغاربية المعنية من قبل القوى الوطنية بمختلف تعبيراتها السياسية والمجتمعية والإعلامية وغيرها، والتي بلغت من القوة حدّاً أجبر القلة المؤيدة للزيارة، في تونس مثلا،ً على الاعتراف بأن توقيتها غير مناسب…
والحقيقة أن ولي العهد السعودي يرتكب خطأً فادحاً من حيث يقدّر أن زيارته ستكون مربحة له ، ذلك أن زخم الحراك الشعبي المعادي لها، حتى وإن لم يتمكن في النهاية من منعها لاعتبارات حكومية ودبلوماسية عديدة ، إلا أنه سيفرغها من كل مضمون ، وسيزيد من فضح حقيقة الأمير وإظهاره بمظهر المجرم المطلوب للمحاكمة على ما اقترفه من جرائم بشعة يعدّ بعضها كالتي ارتكبتها قوات التحالف السعودي في اليمن، جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية….
وربما كان بن سلمان لا يعرف أنه سيزور دولاً يكره مواطنوها بالفطرة كل من يتعامل مع الكيان الصهيوني، فكيف وقد أصبح التحالف مع الصهيونية والتطبيع مع كيانها العنصري على يديه هو العمود الفقري للسياسة الخارجية السعودية والخليجية عموماً.
وربما نسي ولي العهد أو تناسى أن المواطنين في تلك الدول يعتبرون فلسطين خطاً أحمراً ، وأن تجاوزه جريمة لا تغتفر.
وقد كان عليه أن يعرف على الأقل أن الموريتانيين مثلاً لم يهدأ لهم بال إلا بعد أن أسقطوا العلاقات الدبلوماسية التي أقامتها السلطة الموريتانية السابقة مع “إسرائيل”… وأن القوى الوطنية التونسية ما زالت مصممة على تضمين الدستور التونسي بنداً ينص على تجريم التطبيع مع كيان العدو… وأن قضية فلسطين توحّد الجزائريين ، كل الجزائريين، تماماً كما وحدهم الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي…
وهذه مجرد أمثلة لأن الحديث عن دور الجماهير المغاربية في نصرة فلسطين والانخراط في مقاومتها منذ أن رأت قضيتها النور شأن يطول ….
وقد كان على ولي العهد السعودي أن يفكر جيداً قبل أن يتخذ قرار الزيارة وهو متورط في صفقة القرن الترامبية ومستلزماتها من استهداف المقاومة والتطبيع مع العدو الصهيوني، فكيف وهو أيضاً يتحمل مسؤولية المأساة اليمنية التي لم يعد حتى حلفاؤه الغربيون قادرين على تحمّل نتائجها الكارثية ، وكيف وبلاده متورطة حتى النخاع في الحرب الإرهابية المتوحشة على سورية و العراق وقبلهما ليبيا خدمة لأهداف المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة….ولن أتحدث عن جريمة قتل الخاشقجي فهذه الجريمة لم تظهر إلى العلن وتُقم الدنيا، إلا لأنها ارتُكبت خارج المملكة، ونشر الأعلام التركي تفاصيلها، فلم يستطع الإعلام الغربي المتصهين تجاهلها وغض النظر عنها…
أخيراً ربما كان بن سلمان يعتقد أنه يستطيع استغلال صعوبة الأوضاع الاقتصادية في دول المغرب العربي لشراء قرارها السياسي ولاسيما أنه مدجج بالمال وأن بلاده تتحكم إلى حد بعيد بأسعار النفط ما يجعلها قادرة على الضغط بهذه الورقة على الدول العربية المنتجة للنفط كالجزائر ، لكن هذا الاعتقاد المتغطرس سيصطدم حتماً ويتكسّر على صخرة الرفض الوطني المتعاظم لزيارته ، والذي سيجعل الحكومات المغاربية تحسب ألف حساب لرد الفعل الشعبي قبل أن تستجيب لمطالبه، هذا إذا لم تكن أصلاً ترفض بدورها هذه المطالب وتعتبرها تدخلاً أجنبياً وانتهاكاً سافراً للسيادة والاستقلال.
لقد اختار ولي العهد السعودي طريقاً سيقوده إلى مزيد من الغرق في الوحل ، وهو يتصرف كأن شيئاً لم يكن ، كأن لا دماء تلطخ يديه ، ولا ضحايا بالملايين ، ولا كوارث إنسانية بسبب سياسته العدوانية المتوحشة ، وكأنه لم يُسقط القناع ويُعلن حقيقة الدور الوظيفي لمملكته الوهابية في خدمة أهداف المشروع الامبريالي الصهيوني المعادي وجودياً للأمة العربية ولمشروعها القومي.
وكان أولى به أن يعود إلى رشده ويحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن يبدو أن أوان ذلك قد فات، وأن الثور الهائج المثخن بالجراح ، والذي لم يعد قادراً على التراجع ، ماض إلى مصيره المحتوم.
محمد كنايسي