الدلالات الفكرية لـمعرض د. طلال معلا في الحكمية
اللامتنمي هي ملامح هجينة أقوى انتماءً إنما لدائرة أكثر اتساعاً.. إنه الفنان د.طلال معلا وأنا هنا بصدد معرضه الذي أقيم مؤخراً في صالة الحكمية ولاقى حضوراً يواكب سيرته الذاتية الغنية.. كانت الفرصة سانحة وكانت الفكرة والطريق إليها واضحة.. أما بعد.. فأعود إلى لوحته عن قرب وعن بعد إذ تستهويني حين قراءة أي عمل تشكيلي العودة للوراء لاكتشاف واستكشاف المؤثرات البيئية والتربوية والاجتماعية التي دفعت لذاك الاتجاه وحين يكون الحديث عن علم ينحدر من عائلة تشهد لها الساحة بالعراقة يصير شغفك أكثر إلحاحاً ولباقة.. والحقيقة أني كنت أفتش دوما ًعن ذاك الخيط الذي يمكن أن تتلاقى من خلاله، وتتشابه الأساليب الفنية لأفراد عائلة ارتبطت بالتشكيل وبذاكرة كل سوري على اعتبار أن المنهل والبيئة كانت إلى حد ما واحدة، بغض النظر عن ترتيب أفراد عائلة الفنان معلا في طفولتهم، وعن التنقلات المجاورة لفروقات السن والإدراك.. ويبدو لي هنا أن الحكمة والوعي تولي الاختلاف حقه وتعطي قدراً من حرية الخيار ثم القرار حينها تأتي الرياح بما تشتهي السفن ويشق طلال معلا طريقه إلى الفن من خلال الأدب ثم من خلال دراسة تاريخ الفن في الشرق والغرب ثم من خلال تكوين رؤية نقدية استناداً إلى ثقافة موسوعية، ليحتل مكانه ومكانته كناقد فني قبل أن يخوض في غمار اللوحة التي صارت تعرف طريقها وتستطيع الدفاع عن ذاتها ذلك على أقل تقدير. وعلى أقل تقدير أجد أن وجوه الفنان طلال الهجينة والمتقاربة تذكر وتقول (أننا جميعاً أبناء آدم وحواء أبناء الحياة والعلاقات والشراكات، خلقنا لنبني ونعمر لا لنهدم وندمر).. وكأنه يريد أن يؤالف بين أبناء البشرية في لوحة واحدة ووجه واحد فبين الشمال والجنوب يواصل الأنف العريض رحلته منساقاً إلى لوازمه التي تقتضي ابتعاداً في المسافة ما بين العينين الفارغتين المشدودتين والمنحدرتين من أقاصي الشرق، وهنا لا يغيب عن ذهنية الفنان الاستغراق حين يقتلع من العين السواد ويصير البياض رمزاً لغياب البصر والبصيرة في حياة هي أشبه بالصورة، كما لا يغيب عن حس المتلقي ما يكمن خلف هذا التشويه المتعمد (عبر التغييب) من إسقاطات لقيم فكرية وتشكيلية تحرك العمل وتثير التساؤلات لديه (أي المتلقي الباحث عن الفكرة والعبرة)، فالقراءات مفتوحة وكلها مسموحة وأبسطها العضو الذي لا يستعمل يضمر إذ لا ضرورة لوجوده من جهة، ومن جهة أخرى هي خصائص فن الطفل في سن متأخر يقدمها طلال معلا بشكل مؤثر، فمسافة أصبعين كافية للجبين والشفاه الإفريقية الشبقة والثخينة والحاضرة دوماً قد تغيب في واحدة من أعماله إلى حين، فالدلالة الفكرية واضحة وفرص التأويل سانحة، أما الشارب المعقوف فهو عربي بامتياز وحين تتلاقى بعض الوجوه مع الملامح المنغولية فهي تثير التعاطف والانحياز.
طرح طلال معلا بعضاً من مواضيعه على خلفية الأحداث، وجاءت هذه الإشارات بنفس تلك الروح الطفولية التي شكلت الشعر والإكليل وكل ما هو جميل للأنثى العروس الحاضرة كرمز لاستمرار الأمل والحياة رغم كل ماحولنا من عتمة ومعاناة، تلك القراءة في الشكل الآنفة الذكر هي أكثر اقتراباً من فكر المتلقي وانشغالاته وأعبرها لأنتقل إلى عمق يرتبط بالتكنيك والأسلوبية مستعيداً انطباعاتي السابقة المستندة إلى صور قديمة للوحاته والتي بدت فيها الوجوه مشغولة بعفوية تلامس السذاجة وتصبغ لوحته بحس البساطة والفن الشعبي، وذلك حين لا يكترث للنسب الأكاديمية وحين يخرج البعد الثالث من حساباته وحين تحدد الخطوط الواضحة والعريضة تطلعاته، وكأنه يسعى للوحة تشبه ذاته الأكثر مسؤولية وانضباطاً والتزاماً بالموضوعية والموضوع، غير مبال بما يمكن أن يوصم به من تكرار، هذا من جانب ومن جانب آخر كان طلال معلا يدرك أن تلك الذات لا يفترض أن تبقى على وتيرةٍ واحدة وأن تطورها تابع لقدر انفتاحها على تقلبات الحياة، لذلك عاش تلك الحالة الصوفية التي تمكنه من رؤية أبعاد أكثر عمقاً ثم نقلها عبر تفاصيل صغيرة وعبر يدٍ اكتسبت مهارات كثيرة فانتقل من حس الرتابة للفرشاة واللمسات إلى وجوه وأعمال جديدة أغنت مساحة الجسد ببقع وخطوط مغايرة، واغتنت بمعالجة أكثر رهافةً وشفافية قادرة على الاستفادة والإفادة من ذاك الأثر الذي يحدثه انسكاب الماء على بعض الأجزاء، وأحياناً الاستفادة من التشرب الأسفنجي وما يحدثه من أثر طباعي ليكشف عن ملامح رسم أولي.
في النهاية أقول إن اللوحة التي بدأها طلال معلا سابقاً مختزلاً مجموعه اللوني إلى قيم متقاربة من مساحات ولمسات كسبت في معرضه الرهان عبر هذه الوجوه التي أزهرت وأورقت في كثير من الأحيان، مؤكدة أننا لا نقارب الكمال إن لم تأتِ الأفكار من تلقاء نفسها مغلفةً بالجمال.
حسين صقور