أوروبا على أطلال حضارتها
يواصل بعض الكتّاب والمحللين السياسيين في أوروبا الوقوف على أطلال الحضارة الأوروبية الزائلة، بعد انتقال مركز الحضارة من أوروبا عبر مجموعة من قطّاع الطرق الأنجلوساكسون والإسبان إلى العالم الجديد الذي قاموا باحتلاله وإبادة الشعب الأصلي الذي كان يقطنه وتدمير حضارته ، وذلك تحت عناوين عديدة منها أن هذا الشعب -“الهنود الحمر”- كان متخلفاً لدرجة أنه عندما شاهد هؤلاء “الفاتحين البيض الجدد” اعتقد أنهم آلهة وأنهم يستطيعون القيام بما لا يستطيع غيرهم من البشر أن يقوم به.
وفي معرض حديثهم عن انتقال مركز الحضارة تدريجياً من أوروبا إلى العالم الجديد “أمريكا”، يحاول هؤلاء الكتّاب والمحللون أن يؤرّخوا لانتقال مكوّنات هذه الحضارة الواحد تلو الآخرى، ويجري ذلك بنوع من التعبير عن الحزن على الماضي خاصة لدى الفرنسيين الذين يعدّون أنفسهم روّاد الحضارة الأوروبية، حيث نجد الحديث مثلاً عن خسارة السينما الفرنسية مكانتها لمصلحة هوليوود، فضلاً عن انتقال التكنولوجيا بطريقة دراماتيكية إلى غرب الأطلسي، بحيث شعر الفرنسيون أن بساط الحضارة ينسحب من تحتهم شيئاً فشيئاً، وهم عاجزون عن الإمساك به أو محاولة إعاقته، فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى التحوّل من روّاد للحضارة وصانعين لها إلى تابعين، حيث ظهر ذلك جلياً بعد الحرب العالمية الثانية التي بدت فيها واشنطن كمنارة للحضارة الغربية، وصارت قبلة جميع الغرب وقائدة له، فتمكّنت من خلال امتلاك أدوات الحضارة هذه من السيطرة على القرار الأوروبي، بالإضافة إلى إنشاء ما يسمّى حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي جعلته أداة لها، ولا تزال قرارات هذا الحلف في السلم والحرب بيد واشنطن التي جعلته بديلاً من الجيوش الأوروبية الوطنية بحكم مساهمتها الكبرى في تمويله.
ومن هنا بدأت الدعوات في أوروبا إلى إنشاء جيش أوروبي يكون بديلاً من هذا الحلف، ولكن دون إعلان هذه الغاية صراحة خوفاً من الغضب الأمريكي، وهذا بالذات ما فعله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتابعته فيه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، بعد أن شعر البلدان أن الولايات المتحدة بدأت تتعامل معهما صراحة ودون مواربة على أنهما تابعان يدفعان ما يترتب عليهما لواشنطن مقابل حمايتهما، وبالتالي لا ضير في مغامرة واشنطن بمصالح البلدين ما داما خاضعين في قراراتهما لهذه التبعية.
هذه النظرة الاستعلائية من واشنطن بدأت تثير لدى الدول الأوروبية مجموعة من ردود الأفعال السلبية إزاء هذا الموضوع، حيث شعرت أوروبا أن الولايات المتحدة تسعى بشكل جدّي إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي بوصفه قوة اقتصادية يمكن أن تنافسها، والأهم أن العملة الأوروبية يمكن أن تحل محل الدولار الذي يعدّ أداة واشنطن الأولى في السيطرة على العالم، وخاصة أن هناك توجّهاً من دول كبرى تحتل موقعاً متقدّماً في الاقتصاد العالمي كالصين والهند للتوجّه نحو استبدال الدولار في تعاملاتها التجارية بعملتها المحلية، ما يؤدّي إلى انحسار دور الدولار في السيطرة على الأسواق التجارية، وهذا بالفعل ما يؤرّق واشنطن حالياً، ويجعلها تتعسّف في اتخاذ العقوبات الاقتصادية حتى في مواجهة شركائها التجاريين ومنهم الاتحاد الأوروبي الذي استيقظ متأخراً على كابوس تحويله إلى مجرّد تابع للولايات المتحدة يديره البيت الأبيض من وراء المحيط.
طلال الزعبي