أستانا.. والعودة إلى المبادئ
بعد قرابة العام على انطلاق جولتها الأولى، وبمراجعة سريعة، يبدو أن جدول أعمال الجولة الحالية، الحادية عشرة، من اجتماعات أستانا، والمتضمّن مناقشة الوضع في إدلب وعودة المهجّرين ومكافحة الإرهاب والوضع المرتبط بلجنة مناقشة الدستور الحالي، وكأنه لا يعبّر بدقة عن الاحتياجات العملية لحل الأزمة، ولا يتطابق مع متطلبات هذا الحل بالضرورة.
فالوضع الميداني في إدلب استنزف كل إمكانياته – تركياً – من التسويف والتأجيل والمماطلة، وهو يسجّل في إدلب، على خلاف باقي مناطق خفض التصعيد التي وجدت طريقها إلى الحسم والمعالجة، ما يشبه الارتدادات أو الانتكاسات العكسية، إذ تتحوّل المنطقة المنزوعة السلاح تدريجياً، وتحت جنح الظلام، وبرعاية مباشرة من تركيا “الضامنة”، أو على الأقل في ظل عجزها – إذا ما سايرنا روسيا في حسن ظنونها – إلى منصة لاستهداف المدنيين في حلب، بل وإلى استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، والتي يبدو، قياساً بردة الفعل الغربية اللامبالية، أن علينا أن نعتاد عليها بوصفها جزءاً من ترسانة ازدواجية المعايير الغربية الرهيبة تجاه سورية تحديداً، وضريبة لمأزق أردوغان في سورية أيضاً؛ علاوة على أن هذا الأخير بدأ عملية من ترتيب الأوضاع تكشف عن التخطيط لإلحاق المدينة – إدلب – إدارياً واقتصادياً في إطار مشروع يمكن أن يقود إلى احتمالات عديدة أقلها تحويل المنطقة إلى كانتون سياسي مغلق على أنصار الأممية الإخوانية تحت يافطة لا مركزية الدولة السورية “الموعودة” التي لايزال يخطط لها ويطمح إليها. الأنكى من ذلك أن أردوغان يريد أن يجعل من إدلب رأس جسر لتصفية بقية حساباته السياسية والأمنية في المنطقة الشرقية من سورية، وهو يتوعّد إرهابيي شرق الفرات فيما يلتزم الصمت ويطلب مهلاً إضافية فيما يخص “جبهة النصرة” المصنّفة إرهابية على اللوائح الدولية.
ذلك كان في البند الأول من جدول الأعمال، أما في ملف المهجّرين، فالمعطيات الجغرافية تقول: إن تركيا وحدها يمكن أن يكون لها تأثير فعلي – على الأرض – بين الأطراف الثلاثة الضامنة “موسكو وطهران وأنقرة”، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الدور الروسي يبقى سياسياً بامتياز، ولا بد أن يمر من خلال النقاش مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تملك حصرية قرار بعض الدول المجاورة، ومع الدول الأوروبية التي تريد الإبقاء على هذا الملف كورقة مساومة وحيدة متبقية يمكن أن يكون لها تأثيرها على صعيد تمويل إعادة إعمار ما دمّره الغرب نفسه بغارات “التحالف” وبمرتزقته المحليين فوق الأرض السورية؛ وهو ما ينطبق، إلى حد كبير، على لجنة مناقشة الدستور التي يتهيأ للبعض أنها الثغرة – الأخيرة – التي يمكن من خلالها فرض شروط ومحددات تشريعية ودستورية تخص طبيعة النظام السياسي ومبادئ وأهداف الحياة السياسية وآليات صناعة القرار في سورية الغد، بما يحقق للمعسكر الداعم للإرهاب سياسياً ما عجز عن تحقيقه عبر الدعم العسكري والمالي واللوجستي للمجموعات الإرهابية على امتداد السنوات السبع الماضية.
من الواضح أن الطرف التركي لم يمارس حتى الآن دور الضامن، وأنه حجز – أو مُنح – مقعداً بهذه الصفة كي يمارس الألاعيب والالتواءات وأفانين النفاق التي باتت سمة مميزة للسياسة الخارجية التركية منذ أن وصل الأردوغانيون إلى السلطة قبل قرابة العقدين من الزمن. إنه يزاول الرقص على الحبال، ولا يتردد في استغلال حاجة “الشركاء” القاريين والدوليين لتجنّب العمل العسكري، والتزام الدبلوماسية أقله كخيار أولي؛ ومن الواضح أيضاً أنه يمني النفس بمواصلة هذه السياسة إلى ما لانهاية، وطالما أنه يشعر بحاجة الأطراف الأخرى للتعاون معه، وغضّ الطرف عنه، والصمت حياله، بل وشراء وده أحياناً، في مرحلة على غاية من الحساسية توشك فيها المعادلات الدولية القائمة على الانهيار لتفسح المجال أمام بناء نظام دولي جديد من الصعب حتى اليوم التكهن بملامحه كاملة.
ولكن تركيا ليست دولة عظمى بالمعايير العالمية.. هي حتى الآن دولة ناشئة تبحث عن المكانة والاعتراف بها مدفوعة بفورة سياسية قد تكون مدمّرة، من ديكتاتورية جنون العظمة الأردوغانية ومن رهانات اقتصادية خطرة قائمة على المديونية العالية. لقد نهض الرهان الأردوغاني على مزيج متفجّر من دعم المحافظين الأمريكيين الجدد لصعود الإسلام السياسي “المحافظ” إلى السلطة في الشرق الأوسط ومن أنموذج التنمية الاقتصادية المرتبط بقروض صندوق النقد الدولي. تركيا أردوغان هي أشبه بمملكة سلمان وابنه اليوم، دولة فاشلة من الداخل ونمر من ورق قد يجد نفسه فجأة في مواجهة أوخم العواقب، وقد يجر شعبه معه إلى التهلكة. ولكن أسوأ ما يمكن مواجهته به هو السكوت عن جنونه السياسي أو مجاراته بانتظار عودته إلى رشده.
بعد قرابة العام، يبدو أن مسار أستانا بحاجة إلى المراجعة.. أو في أضعف الإيمان العودة إلى المبادئ الأساسية التي حكمت انطلاقته.
بسام هاشم