تنوع الأجناس القصصية في “أرملة سوداء”
تبدو مجموعة أرملة سوداء للكاتبة لميس الزين شاهدا واضحا على تنوع الأجناس القصصية وتدرجاتها من ق . ق . ج إلى القصة المتوسطة إلى القصة القصيرة، والتي تواصل حضورها السوري المميز على الرغم من الحرب والدمار، وما زالت تحتل مكانها على المنابر كجنس أدبي يحظى بقبول الجمهور، وتقام له الأمسيات والمهرجانات، ولأن لكل جنس أدبي لغته وأسلوب بنائه فإن أول ما يطالعك في هذه المجموعة هو كفاءة واقتدار الكاتبة على إعطاء كل قصة حقها من اللغة التي تقوى على إيصالها للقارئ.
تضم “أرملة سوداء” ثلاثا وخمسين نصا وتتراوح العناوين ما بين مفردة واحدة كالدمية دراكولا، تعديل المسمار تعتيم أوبة شذوذ غياهب جريمة وكلمتين ك كائن الظلام حفلة تنكرية قاسم مشترك مأساة زوج، أو ثلاث ألف ليلة وساعة حدث في حلب ومثل ذلك ما زاد عن الثلاث، والعنوان عتبة نصية تشي بدراية الكاتب بدور العنوان وتوضح مدى اهتمامه بشد الانتباه للنص، أو بما هو مكتوب، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكاتبة أفلحت باختيار معظم العناوين.
ومن الشكل إلى المضمون أو المضامين التي حملتها هذه النصوص، فالقصة القصيرة جدا تشكل الحيز الأكبر من المجموعة تميزت بالإيجاز في نقل الحدث مع الحفاظ على لغة ق. ق. ج ذات التكثيف العالي حتى بدت جرعة فائقة العناية مع توازن ملحوظ بين الحامل اللغوي والمحمول الإنساني أو الوطني أو الاجتماعي. ولكن من هي الأرملة السوداء وهل هي حقا مثلما صورتها الكاتبة أم أنها مجرد امرأة تدفقت على عجل من بين أناملها كبطلة لقصة متوسطة أو أقصوصة كما يحلو لكثيرين أن يصفوها؟
بداية هي لا تتذكر تماما كل الأزواج الذين قتلتهم، لكنها تتذكرالرقم واحد ص 27 كان يهرش التفاح بصوت مزعج وضعته في الفريزة وتظن أنه مازال هناك.
الثاني كان طيبا لكنها لم تحتمل متابعته للمسلسلات المكسيكية.
الثالث كان كثير الكلام يصر على قول صباح الخير كل يوم، فماذا فعلت به؟ لقد أطعمت لسانه لعنكبوت كانت تربيه في خزانتها.
الرابع اكتشفت أن أنفه يشبه أنف جدتها لأبيها كانت امرأة سيئة السمعة، لكن الأرملة كانت متعبة يومها فكلمت جارتها حسنية، امرأة ودودة ولا تستنكف عن تقديم المساعدة، هي نسيت أن تسألها كيف قتلته، وأنا لم أعد أجرؤ على السؤال ما إذا كانت حسنية أرملة بيضاء، وهل من حقي أن أسرد مصائر الرجال الآخرين الذين نالوا أرقاما متسلسلة قبل أن تجزم البصارة أن رقم الحظ هو 13 ص 28 .
في المقابل أو المعادل الموضوعي لهذه المرأة المختلفة والتي ربما كانت نتاج الحرب وتداعياتها أو الظلم بكل مفرداته الاجتماعية والدينية والطبقية ووو، مقابل ذلك هناك مصاص دماء أو دراكولا، وأكثر ما أخشاه أن يتحول إلى وظيفة عامة يتقدم لإملاء شواغرها طالبو العمل أو محتاجوه. والسؤال إلى أي درجة نجحت الكاتبة في رسم صورته في قصتها (دراكولا) ص29وهي بضمير المتكلم حال معظم قصص المجموعة، هي حكاية شاب يتقدم للعمل كمصاص دماء ويعرض خدماته على الموظف المسؤول بعدما ظنت العاملة التي تقدم إليها أنه مجنون.
يقول في توضيح لشخصيته: ليس في الأمر دعابة ولا تهكم أنا مصاص دماء… الخ ويشبه نفسه بقاتل مأجور لا يقتل لأنه يكره المقتول بل ليعيش، ويضرب مثالا على خدماته (الجليلة) أن طلبت منه امرأة مص دم زوجها “النسونجي” لئلا يتبقى في جيبه ما يقيم فيه أود مقصوفة رقبة أخرى ص 30.
وفي قصص المجموعة محاولة لاستشراف المستقبل وهذه المحاولة بما تحمله من مخاطر يمكن أن تلقى كثيرا من القبول ولاسيما عند من يتمنى الوصول إلى ذلك العام الوارد في الصفحة 30 حيث قصة لأطفال العام 2050 وحتى إلى العام ثلاثين، وقد صيغت بلغة تذكرنا بحكايات مشوقة في أدبنا العربي القديم وتلك المقامات الهمذانية: كان يا ما كان في حديث الزمان ولاحق العصر والأوان، كانت هناك أميرة.. إن المحاولة مشروعة في الخروج عما هو مألوف عن النص السردي المعاصر، ولا سيما إن كانت نابعة من روح تجديدية لدي الكاتب أو الكاتبة،ولا شك أن لديها رغبة جامحة في التجديد ورفض التقليد، وهذا ظاهر في تعدد الأجناس وفي المضامين الوطنية والإنسانية، وقد نجحت القصص القصيرة مثل ثلاسيميا ص73ومأساة زوج ص78 وحدث في حلب 82 أن تشكل لوحات كاشفة لما آلت إليه حلب المدينة التي عانت ما عانت من خراب ودمار ونهب وقتل واختلال عام في كل شيء حتى لم يبق فصل من الموبقات إلا وجرى على خشبة الأحداث وكأننا في مسرح اللامعقول، حيث تعمد إحدى الفتيات إلى قتل خطيبها لأنه رفض تشهيرها الدائم بأهله، وأين يتم ذلك وكيف؟ في حلب المدينة التي شطرتها الحرب وصار الانتقال من الشطر هذا إلى ذاك بطولة إن لم نقل مجازفة. لقد نجحت الكاتبة لميس الزين في نقل جوانب من الحدث الأعم والأشمل الذي هو الحرب في كثير من فصولها الدامية والجارحة للنفس البشرية، وحملت قصة العبور تفاصيل واقعية ولافتة للنظر، وتحمل موقفا من خلال تسليط الضوء وكشف دور ما هو طارئ في تحميل المتعبين من الحرب ما لا يحتملون.
في العبور إضاءة تنويرية على طبيعة شعبنا وسجاياه التي علينا إبرازها على الدوام هذا هو دور الكاتب، أن من يدفع بلقمة خبز لجائع في لحظة هي الأقسى أكرم من حاتم طي ومن كل كرماء العرب، فكيف إن كان قد اقتطعها من حاجته وفضل أن يقدمها لغيره؟
المجموعة صادرة عن دار العراب للدراسات والنشر والترجمة ولوحة الغلاف للفنان التشكيلي بشير بدوي وتستحق أكثر من قراءة انطباعية نظرا لتعدد الأجناس وتنوع اللغة والخطاب، ولما حملته من جديد.
رياض طبرة