النقد الثقافي.. هل هو بديل للنقد الأدبي؟
اعتُبرَ”النقد الثقافي” من أهم المفاهيم التي رافقتْ مقولة ما بعد الحداثة في الغرب. وهذه إشكاليّة جديدة قديمة، حيث أرسيت مبادئ المصطلح في أوروبا إبّان القرن الثامن عشر، وأُعيد إحياؤها في تسعينيّات القرن العشرين على يد الباحث الأمريكي “فنسنت ليتش” الذي دعا إلى نقد ثقافي ما بعد بنيوي، يتمرّد على القواعد المؤسّساتيّة المقيدة ويهتمّ بالِنتاج الأدبي المسكوت عنه، أي أدب المهمّشين. ومن أوائل من تلقّف زهو المصطلح على السّاحة العربيّة الناقد السعودي المعروف “عبد الله الغذّامي” الذي اشتغل عليه تطبيقيّاً في أشعار المتنبي وأبي تمام ونزار قباني وأدونيس، في كتابه: “النقد الثقافي..قراءة في الأنساق الثقافيّة العربيّة” عام 2000م. وكتاب “تأنيث القصيدة والقارئ المختلف” 1999. وكتاب “نقد ثقافي أم نقد أدبي” عام 2004. ليعرّف النقد الثّقافي بالقول: (النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنيّة. معنيّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكلّ تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسّساتي وما هو كذلك سواء بسواء. ومن حيث دور كلّ منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو بذلك معنيّ بكشف لا الجمالي كما شأن النقد الأدبي، وإنّما همّه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/ الجمالي). لينتهي الغذّامي إلى نعي النقد الأدبي بقوله: (وبما أنّ النقد الأدبي غير مؤهّل لكشف الخلل الثقافي، فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه..).
وهاهي عبارته المكثّفة، توجز شيئاً عن ملامح مشروعه في النقد الثقافي، يقول: “المتنبي مبدع عظيم أم شحّاذ عظيم”، ففي النقد الأدبي يمكن قراءته في نصّه جماليّاً كمبدع عظيم، وفي النّقد الثقافي المضمر يمكن قراءته كشحّاذ عظيم، ويبقى السؤال المحوري في مشروع الغذامي كما يرى البعض: “هل هناك في الأدب شيء آخر غير الأدبيّة؟
دراسة ثقافيّة أم نقد ثقافي
النقد الثقافي هو نقد فكري وعقائدي وإيديولوجي، يُعنى بالمؤلف والسياق والمقصديّة والقارئ والناقد، ولذلك رفض مثقفو أمريكا منح جائزة “بولنجتون” 1949 منحها للشاعر “إزرا باوند” لتأييده سياسات موسوليني وهتلر أثناء الحرب العالمية الثانية. وهذا يعني أنّهم لم ينطلقوا من النصّ أو الخطاب، بل من المسلّمات الثقافيّة والسياسيّة والأخلاقيّة، والنقد الثقافي أيضاً عبارة عن مقاربات متعدّدة الاختصاصات، تنبني على التّاريخ وتستكشف الأنساق والأنظمة الثقافيّة، وتجعل الخطاب وسيلة أو أداة لفهم المكوّنات الثقافيّة المضمرة في اللّاوعي اللّغوي والأدبي والجمالي. أمّا الدراسات الثقافية فتهتم بعمليّات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها، كما توسّعت لتشمل دراسة التاريخ، وأدب المهاجرين، والعرق، والكتابة النسائية، والجنس، والعرق، والشّذوذ، والدلالة، والإمتاع..وكلّ ذلك من أجل كشف نظريّة الهيمنة وأساليبها. كما يقول النّاقد “جميل حمداوي”. وكذلك يجب التمييز بين “النقد الثّقافي ونقد الثقافة، كما يقول الغذّامي: (حيث تكثر المشاريع البحثيّة في ثقافتنا العربيّة، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقويّة، وهذا كلّه يأتي تحت مسمّى نقد الثقافة). كما يرى في الشعر العربي بمضمره وخلفيّة لا وعيه الثقافي، بأنّه شعر فحولة وتغنٍّ بالطاغية الذكوري، وقد امتدّ تأثيره على الشعر الحديث أيضاً الذي غدا بدوره رجعيّاً يسير على نهج سلفه بتمجيد الفحولة والطاغية: يقول: (تصنّع أدونيس شعراً جميلاً وخلّاباً، لكنّه لا يضيف شيئاً جديداً جدّة جوهرية إلى الثقافة العربيّة، ذلك لأن الشعر مذ معرفة الإنسان به يقوم على هذه الأسس، وهي أسس خالصة الشعريّة، ولقد تشبّعت الذّات العربيّة بها منذ الأزل، وهي في عرفنا ما أسهم في شعرنة الشخصيّة العربيّة، وصبغها بالصبغة الشعريّة، حتى صار النموذج الشعري هو الصّيغة الجوهريّة في المسلك والرؤية، مما سمح للنسق الفحولي التسلّطي والفردي بأن يظل هو النهج والخطّة. وبما إنّ أطروحة أدونيس تدور حول هذا النموذج النسقي وتصدر عنه، فإنها لا يمكن أن تكون أساساً للتحديث الفكري والاجتماعي، إنّها حداثة في الشكل، حداثة فرديّة متشعرنة، فيها كلّ سمات النموذج الشعري بجماليّته من جهة، وبنسقيّته من جهة ثانية).
نقد النّقد
ثمّة من انبهر بمشروع الغذامي، كالدكتور السّعوديّ مصطفى الضبع، الذي اعتبره يمثّل: “استيعاب الناقد لكلّ ما طُرح على الساحة العالمية في الموضوع” وهو هام جداً يسعى إلى مراجعة “الكثير مما كرّسه النقد الأدبي عبر عصور التراث العربي السابقة”. وهناك من نقد المشروع تحت صيغة “لماذا ينبغي تجاوز النقد الأدبي إلى النقد الثقافي”؟ كالدكتور “عبد النبي صطيف” الذي دافع عن النقد الأدبي، وهناك من يرى التناقض الصّارخ في أقوال الغذّامي الذي لا يستطيع تجاوزه بين اعتبار النقد الثقافي بديلاً وبين القول بالتداخل بين النقدين، حيث نقرأ في مقدمة كتابه: (وليس القصد هو إلغاء المنجز النقدي الأدبي، وإنّما الهدف هو تحويل الأداة النقديّة من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره “تسويقه” بغضّ النظر عن عيوبه النّسقيّة).
كما يعتبر الغذّامي أن الأنساق الثقافية تاريخية، أزليّة، راسخة لها الغلبة دوماً، وهذا ينفي عنها الحركة والتغيير. بينما النسق الثقافي هو نسق زمكاني تاريخي له شروطه الثقافية المتغيّرة، وهو الذي يفسر اختلاف الأنساق الثقافية. كما أنّ الثقافي لا يشكّل إلّا بنية من البنيات الأساسيّة التي تعتمل في مجتمع من المجتمعات ولا تنمو بمعزل عن البنى الأخرى، التي تتفاعل وتتطوّر معها ضمن شروط زمنيّة محدّدة. حيث يرى المفكّر “ميشيل فوكو” بالنسق مجموعة من العلاقات، تستمر وتتحوّل في استقلال عن الأشياء التي ترتبط فيها بينها، لذلك فالنسق ليس أزليّاً ولا ثابتاً كما يراه الغذامي. وهناك من اعتبر أن النقد الثقافي هو نقد من لا نقد له، وأنّ النّقد الأدبي الأكاديمي ليس نقداً جامداً أو جافّاً كما وصفه صاحب مصطلح “النقد الثقافي” وإنّما يراعي في مضمونه الجوانب الثقافيّة والسياسيّة والتّاريخيّة للنصّ والمؤلّف أيضاً. ثمّ إنّ اهتمام الغرب بهذا المصطلح يكمن في الثورة على العقل والانفتاح على ما بعد الحداثة وقد رافقه تغيّرات جوهريّة على مختلف المستويات، وهذا يختلف بشكلٍ جذريّ عمّا يحدث عندنا حيث كما قِيل، الثقافة الهامشيّة في الغرب هي التي فرضت نفسها على النقد لا هو الذي له الفضل في اكتشافها.
أوس أحمد أسعد