يوميات الحرب…!
حسن حميد
أتابع بشغف الكتابات التي تصدر هنا وهناك، وهي تمضي إلى الأعماق من أجل جلو غُمة الحرب التي فرضت علينا فاجتاحت برياحها السموم كلَّ عزيز ونبيل، وأتت بأذياتها على كل ندي معشب مونق، وهمّت، لولا همة الرجال، أن تقطع الدروب على الأجيال والأحلام في آن؛ أتابع المكتوب عن الحرب ليس تفنيداً لأسبابها والغايات التي استُهدفت من ورائها، وإنما من أجل أن نعرف، ويعرف غيرنا، كيف ثبتت الأقدام بالاقتدار الكامل للمواجهة، وكيف عزمت النفوس على أن تبدي مفاعيل عشقها للأرض، والتاريخ، والحق!
روايات كثيرة، ومثلها قصص وقصائد ومسرحيات كثيرة أيضاً صدرت خلال السنوات الثماني الماضية، وفيها الخوف العزيز، والقلق الإيجابي، والروح اللهوف، والعين الرانية، والقلوب التي تدق من أجل سورية المكان، والتاريخ، والناس، والسيادة كي تظلَّ أمينةً على أحلام أهلها وأفكارهم وقناعاتهم الإيمانية بالدور والفعل والعزيمة. أحزان جمّة، وآهات متعالية، ومخاوف تترى، وأدعية، ومفارقات، ومفاجآت، وأسئلة حائرة، واصطفافات كاوية ما كانت لتخطر في البال ولا تبدو في الحسبان، احتشدت بها صفحات الأدب التي تتحدث عن الحرب بمفرداتها وتناقضاتها وسلبياتها، والمشاهد الدامية التي عرفتها القرى والمدن والدروب والطرقات والمدارس والمشافي ومقرات الدولة على اختلافها وتنوعها، وحالات الخراب المدروس والمخطط له كيما تصير القرى والمدن والأحلام كومات قش ليس إلا في ضفة أولى، والبطولات النادرة، والوقفات الفذة، والأرواح الجسورة، والتماهي الوطني ما بين المكان والزمان والراهن والآتي في تماهٍ واتحادٍ لا تعرفهما البلدان إلا في أوقات الشدائد والمكاره السود في ضفة ثانية.
مؤلفات كثيرة، لو قيض للمرء أن يعتصرها بيديه لسال منها دم غزير، ولرشحت منها أحزان غامقات، ولتجلت، من خلالها، غرائب وعجائب ما كانت لترد على الخاطر في عالم الخيال والمجاز.. وقد كتبتْ هذه المؤلفات أجيالٌ متفاوتة في أعمارها ومواهبها ورؤاها، وكلها تروم التعبير عما حدث لهوله وبشاعة ما فيه من وحشية وأحقاد وأحماض ونذالة وخيانات واستدارات ناكصة مضادة للفكر، والبداهة، والحس السليم، والروح الوطنية، والعفوية، وأبسط المبادئ التي تميز الإنسان من الوحش، والأهم أن بعض هذه الكتابات المهمة هي كتابات صادرة لأبناء أعزاء ما كانت الكتابة بالنسبة إليهم حلماً أو غاية أو أرقاً، لكن ظروف الحرب التي عاشها أبناؤنا مقاتلو الجيش العربي السوري بعيداً عن أهاليهم، ومناطقهم، وأصدقائهم، جعلت منهم كتّاباً وأهل تعبير، ولا سيما هؤلاء الأبطال الذين حالت الحرب ووقائعها بينهم وبين مسارات حياتهم التي خططوا لها، فجالسوا الورق، في أوقات الهدأة، ليكتبوا عن رفاقهم الذين ضحّوا بأرواحهم فداء لتراب سورية وعلمها وسيادتها، وعن رفاقهم الذين جرحوا، والذين فقدوا، فكتبوا تفاصيل التفاصيل وقد صارت وقائع الحرب هي حياتهم ووقتهم، وهي المرآة التي نقشوا على صفحتها مشاهد ثباتهم الأسطوري، وإيمانهم المطلق بعزة البلاد الآبدة، مثلما نقشوا عليها أيضاً تفاصيل المكان السوري الذي افتكوه من بين أنياب الوحوش الآدمية التي لم تعرف معاني الحق والخير، والجمال. بلى، الروايات والقصص والقصائد والمسرحيات التي صدرت، ولا موضوع لها سوى أحداث الحرب، هي كثيرة ومهمة وجليلة في غاياتها، ولكن المذكرات واليوميات التي كُتبت بأقلام حماة الخنادق والثغور والتخوم، أو قل المذكرات واليوميات التي كُتبت بذوب أرواح الرجال الذين حرروا كل ما وقع بين الأيدي القذرة، لهي الكتابة الأكثر حميمية وسرانية وجمالية لأن أبناءنا، حماة الديار، يقفون في وسط أسطرها بقاماتهم الممدودة العالية، وبوجوههم الباسمة، وبقبضاتهم المرفوعة وهم يرددون نشيد الأزل: بلادي.. بلادي!
Hasanhamid55@yahoo.com