السترات الصفراء.. ثورة ضد الفقر
متى سيفهم ماكرون وحكومته أن حركة “السترات الصفراء” تمثّل تمرداً ليس فقط ضد فرض الضرائب على الوقود، ولكن ضد تفاقم نسبة الفقر الذي يضرب ضواحي فرنسا؟ إذ يشكّل الفرنسيون، الذين يعيشون في البلدات والقرى الصغيرة التي تشكّل المحيط المتطرف للمدن الرئيسية، الجزء الأكبر من الناشطين في هذه الحركة: بينهم موظفون، أصحاب مهن حرة، أصحاب مشاريع صغيرة، إضافةً إلى الحضور اللافت والكثيف للمرأة. ولمواجهة هذا الواقع، أرادت الحكومة أن تفجر “صراعاً” بين الاستهلاك وحالة الطوارئ البيئية، رغم أنه من الواضح للجميع أن هذه الحكومة نفسها لا علاقة لها بالمخاوف البيئية على الإطلاق.
إذاً القوة الشرائية هي مفتاح التمرد، حيث يشير أحدث تقرير نشر مؤخراً إلى ازدياد فقر الأصول بنسبة الثلث بسبب ارتفاع نسبة البطالة، وعليه فإن البطالة الجماعية التي تعاني منها شريحة الشباب هي سبب رئيسي للفقر. إن أبرز ما حدث في العشرين سنة الماضية هو تطوّر فقر الأسر ذات العائل الواحد، التي يعيش أعضاؤها تحت خط الفقر في ثلث الحالات تقريباً. ما هو واضح هو إفقار العائلات وطردها من مراكز المدن جراء ارتفاع الإيجارات والمضاربة العقارية، وإجبارها على الانتقال إلى المناطق الريفية، التي غالباً ما يتم التخلي عنها وتهملها الحكومة، وتغيب عنها الخدمات العامة. هذه العائلات أُجبرت على السفر وقطع مسافة 40 إلى 60 كم للذهاب إلى العمل.
في المقابل، تشهد الأسر الأكثر ثراءً تحسّن أوضاعها باطراد، والأسر التي يمكن اعتبارها “غنية جداً” شهدت تكدس ثرواتها ودخلها،. ومن المؤشرات على هذا الوضع التطوّر المتناقض لمستوى المعيشة المتوسط لدى الطبقات الاجتماعية، في حين أن متوسط مستوى المعيشة قد ازداد منذ أزمة عام 2008.
يُضاف إلى ذلك انعدام المساواة المتزايدة للثروة المنزلية: إذ تُحسب الثروة النقدية، التي تأتي من المبالغ المودعة في الحساب الجاري للأسرة في البنوك بالنسبة إلى السكن، إلى الأصول المهنية، وليس إلى الأصول المالية. انخفضت هذه الثروة بالأسعار الثابتة في الفترة من 1995 إلى 2015 بالنسبة لـ 20٪ من الأسر الأقل ثراءً. هذا الوضع لإفقار الأسر الأكثر فقراً يترافق مع تدهور الخدمات العامة والتحويلات الاجتماعية (التي تعتبر إصلاحات المعاشات المختلفة مثالاً عليها). في الواقع، تمثّل الخدمات العامة، مثل المعاشات التقاعدية، شكلاً من أشكال التراث الجماعي للفرنسيين. في كل مرة يتم فيها تخفيض الخدمات العامة، يكون هناك خسارة كبيرة في الثروة، لأنها أكبر مستخدم لهذا “التراث الجماعي” للفرنسيين.
يشكّل هذا الإفقار، سواء في الدخل أو الثروة ، الذي أصاب الفرنسيين الأكثر ضعفاً العمود الفقري لحركة السترات الصفراء، يُضاف إليه عوامل أخرى، مثل ارتفاع معدلات الاستهلاك، وتدهور نظام المعاشات التقاعدية، سواء كان ذلك من خلال عدم إحصاء المبالغ في مواجهة التضخم أو مراجعة المعاشات التقاعدية المعاكسة، وهو تدبير غير عادل على وجه الخصوص، لأن المرأة تحصل في المتوسط على معاش أقل من الرجل. وعليه ثمة وضع لا تستطيع فيه أفقر الأسر التعامل مع الإنفاق على الصحة أو الإنفاق على الطعام.
هيفاء علي