اللجنة الدستورية في مضمونها التركي الأمريكي
على الرغم مما يبدو من خلاف ظاهري بين الطرفين في التموضع السياسي الحالي بشأن بعض جوانب الأزمة السورية، إلا أنه، وفي المضمون، يبدو أن هناك تطابقاً مدهشاً بين أنقرة وواشنطن من “اللجنة الدستورية” العتيدة، شكلاً ومضموناً ومخرجات مستقبلية، فبينما تعرقل الأولى تشكيلها من الداخل، باعتبارها إحدى الدول الثلاث المشاركة في مسار “أستانا”، تعرقل الثانية تشكيلها من الخارج عبر الهجوم الكلامي، الصاروخي، ضد صيغة “أستانا” بالمجمل التي “وصلت إلى طريق مسدود”، بحسب بيان للخارجية الأميركية، وهو هجوم استكملته لاحقاً بعدوان صاروخي عسكري ضد وحدات الجيش السوري العاملة في البادية، ليكون العدوانان – الأمريكي، السياسي والعسكري، والتركي المعرقل – تعبيراً صريحاً، وفاضحاً، عن وجهة الصراع في مرحلته النهائية، وهي استمرار حماية ما تبقى من فلول المجموعات الإرهابية، سواء “داعش” في البادية، أو “النصرة” في إدلب، من جهة، والإعلان، من جهة أخرى، عن التمسّك بالسيطرة على مخرجات الحل السياسي عبر تحديد هوية من سيكتب الدستور، وما هي ملامحه النهائية، وكيف سيكون شكل وبنية الدولة السورية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، واتجاهات سياستها الخارجية في المرحلة القادمة، وبالتالي شكل المنطقة بالكامل، وهوية الجهات المسيطرة عليها، خاصة في ظل الرهانات المتزايدة، سواء الأردوغانية على تركيا الكبرى، أو الأمريكية على ولادة “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” في العام القادم، وهما مشروعان يعرف من يقف خلفهما أن سورية المعافاة، وبتوجهها القومي العروبي، ستكون مقلقة لهما بكل تأكيد.
والحال فإن الأهداف الأمريكية التركية التي تراوحت ما بين “إسقاط النظام”، أو تغيير سلوكه، أمريكياً، وشكله وبنيته الداخلية تركياً، لم تكن خافية على أحد، لكن وسائل تحقيق هذه الأهداف وترتيبها كانت تتغيّر من مرحلة إلى أخرى بحسب الواقع السياسي والميداني، فمن الضربات العسكرية المنتقاة بالتزامن مع قوانين معاقبة سورية اقتصادياً وسياسياً إلى توقيع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، منذ فترة قصيرة، قانوناً يتضمّن تشكيل ما يسمى “مجموعة دراسة سورية”، ليصبح قراراً نافذاً، وهو قانون يشبه في مضمونه وسياقه قوانين سابقة أوصلت العراق إلى ما هو عليه الآن، مروراً بإصرار واشنطن على حماية البنى السياسية والعسكرية التي أنشأتها شرق الفرات مع أتباعها هناك، في ترسيخ لاحتلال فعلي لقطعة من الأرض السورية، يمهّد لاحتلال للقرار السياسي لاحقاً، فيما تعدّدت الوسائل التركية من فتح أراضيها كقاعدة خلفية متكاملة للإرهاب، مروراً بالتدخل العسكري المباشر، وصولاً إلى تحذير مريب أطلقه السلطان العثماني مؤخراً يحذّر فيه من “إعادة رسم المنطقة عبر حرب كبيرة”، وكأنه يبرئ نفسه من المشاركة في هذه الجريمة التي بدأها مسبقاً من جهته، سواء عبر عملية الـ”تتريك” الواسعة في شمال سورية، والتي بدأت من تغيير الهويات الشخصية ونظام التعليم الرسمي، وصولاً إلى العملة، وما إلى ذلك من مظاهر سيادة الدولة السورية، أو عبر تصريحه الشهير منذ سنوات عدّة بأنه الرئيس المشارك في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندوليزا رايس أن حرب تموز هي مخاضه الأولي، لينكشف لاحقاً أن المطلوب هو شرق بواجهة إخوانية مرعية تركياً ومضمون إرهابي مذهبي يضمن قرناً جديداً من الدماء والصراع على السماء، ما يترك المجال مفتوحاً لصفقة قرن أولى تقدّم ما تبقى من فلسطين للصهيونية العالمية، وصفقة قرن ثانية تستنزف ما تبقى من ثروات باطنية عربية من نفط وغاز، سواء بالرضى أو بالابتزاز.
بالمحصلة، لا تريد واشنطن وأنقرة، استراتيجياً، حلاً سلمياً حقيقياً للأزمة السورية، وإن اختلفتا تكتيكياً في الوسائل، وبالتالي لا مصلحة لهما معاً في “لجنة دستورية” إذا لم يسيطرا على الجزء الوازن منها بهدف حلّ الدولة وليس حلّ أزمتها، وتلك قضية تكتنفها تبعات خطيرة جداً، وإذا كانت واشنطن كقوة عظمى بعيدة جداً جغرافياً عن تحمّل تبعاتها، فإن أنقرة قريبة جداً للنجاة من هذه التبعات، لكن وهم السلطنة قاتل.. قاتل.
أحمد حسن