من داخل الصندوق الأسود
لم يتفق العالم على حقيقة علم الطاقة بعد.. فثمة جدل كان محتدماً بشأنه بين المصداقية والدجل، لكن يبدو أن الغرب اختار التصديق، وشرع بتوسيع أبحاثه، وتعميقها باتجاه المزيد من الاكتشافات في هذا النطاق، والمحور العام والأساس هو الإنسان بفعله وفعاليته، بعد أن استنتجوا أن التكنولوجيا العالية لن تكون بديلاً للكائن البشري بمهاراته وطاقاته عندما تكون فعلاً خلّاقة.
من هذه البوابة غير التقليدية ارتأينا الدخول إلى إشكالية تتبلور ملامحها بوضوح بيننا، وتكبر بوتيرة غير اعتيادية في الحقيقة، اسمها “الطاقة السلبية” وفق توصيفات علم الطاقة، وفي الأدب ظهرت بمرادفة السوداوية، وفي الفلسفة كان اسمها التشاؤم، وقد أشبعها الألماني شوبنهاور دراسةً وتمحيصاً وحتى تسويقاً.
في مجتمعنا تبدو الظاهرة قديمة بوجودها، لكنها جديدة بحجمها وحضورها الأفقي، وعلى الأرجح هي نتيجة واضحة من نتائج الحرب على بلدنا، فالمآسي استطاعت استحضار كمّاً هائلاً من الطاقات السلبية في دواخل الكثيرين منّا، واستحكمت بهم، لدرجة أنها حوّلت انتباههم عن كل الأشياء التي بقيت جميلة في هذا البلد، بل وحتى الكون، بالتالي خضعوا لحالة شلل حقيقية لجهة المبادرات والتقاط الخيارات والفرص، عزّزها هواة الصيد والتصعيد، وها هم كادوا أن يحوّلونا إلى مجتمع “قليل الحيلة” أمام وقائع اليوميات الصعبة، بعد أن اختار معظمنا الوقوف في زوايا رؤيا محجوبة الآفاق.. وغرقوا في سباب الظلام بدلاً من محاولة إشعال الشموع.
لن نُفاجأ بمن لن يسمح له تشاؤمه بقراءتنا بشكل إيجابي.. لأن طاقته السلبيّة طغت، فغالباً يبقى المريض مسكوناً بـ”فوبيا” المرض حتى بعد شفائه التام عضوياً، لكن الوقائع المتعافية من شأنها أن تفرض نفسها بقوة، فقط تحتاج إلى شرط الزمن ليراها الجميع، بعد القلّة الذين كان لهم السبق في التقاط إشاراتها، وكانوا الأوفر حظاً في استشراف الآفاق واستثمارها بجدارة، ولعلّهم يستحقّون ما فازوا به من علاوات معنوية أو حتى ماديّة.
بلا طول سرد، نرى أنه علينا أن ننتبه إلى متوالية انحدار القناعات والرؤى الفردية، التي تتزايد الآن بفعل “الميديا الحارقة” التي تدس لنا السموم في دسم الضخ وتدفق المعطيات المفخخة، ومعظمها يجتهد لإفهام المتلقّي السوري بأنه وبلده ليسا بخير بتاتاً.
والمريب أن مثل هذا النشاط الهدّام كان خلال السنوات الأولى من الحرب علينا، من اختصاص مكنات إعلام نشطة تقذفنا بالأخبار والتلفيقات من خارج الحدود، لكننا اليوم أمام منظومة – نزعم أنها متكاملة – تعمل هنا في الداخل، وهذا أخطر ما كنا نخشاه، ونحن على عتبات الاستحقاقات الكثيرة والهامة التي نستعد لمواجهتنا.
لا بد من إيجاد طريقة ما توقف الضخ السلبي، ونشاط مروجي صور الأنصاف الفارغة من الكؤوس، وقد يكون في تعزيز المنظومة الإعلاميّة الرصينة، الأولوية رقم واحد لاستنهاض الطاقات الخلّاقة التي طمستها الحرب بالغبار “والأنقاض”، ثم اجتراح وسائل ضبط ومساءلة فعّالة ودقيقة منصفة، تعمل وفق تشريعات واضحة قد نحتاج إلى استصدار المزيد منها، تلملم أطراف حالة التشتت التي تغلّف آلية التعاطي مع الإعلام عموماً بكل وسائله.
فالذي ثبت أن معظمنا لم يستفد من ظروف الحرب والحصار ومحاولات الإفقار المكثّفة، لنفض الغبار عن وسائل الإنتاج المعطّلة، وإعادة استثمارها للتغلّب على الواقع الصعب، لم تتحرّك عنده عقارب الزمن، ولم يستشعر المتغيّرات الحادّة بين بداية العام 2010 وبدايات 2019.. بفعالية، بل بجرعة قنوط عالية مدمّرة، لا يجوز أن تستمر مهما كان الثمن وكانت الوسيلة.
سوريّة مليئة بالخيرات التي تنتظر من يستثمرها، والفرص الجاهزة لمن يطرق أبوابها، لدينا ميزات اقتصادية مطلقة، وأخرى نسبية مغرية للاستثمار، وكافية لتحقيق الكفاية لمن ينشدها، كلّها محجوبة عن مساحة رؤية المنشغلين في أوقات صحوهم بـ “رشرشة الشتائم” في كل الاتجاهات، ثم يعودون إلى الاسترخاء وتصفّح صفحات الفيسبوك، أو النوم في أحسن الأحوال.
إن التنمية بطبيعتها حالة مجتمعيّة لا حكومية بحتة.. تتطلب إصراراً شعبياً وإرادة حقيقية للعمل والفعل الخلّاق، لأن “توضيب” الاحتياجات الشخصية مهمة الفرد ذاته قبل أي مؤسسة أو وزارة أو دولة، حتى ولو كان للاعبي “الميديا السوداء” رأي آخر.
ناظم عيد