بعد ربع قرن على رحيله.. نهاد قلعي مازال في الذاكرة
احتفت ندوة أماسي بمرور ربع قرن على رحيل نهاد قلعي الذي لم يأخذ حقه، بإدارة الإعلامي ملهم الصالح في المركز الثقافي العربي في –أبو رمانة- وبدأ الصالح بالحديث عن قلعي الذي بقي حاضراً بالوجدان والذاكرة واستضاف الفنانة القديرة ثناء دبسي التي انطلقت من المسرح القومي الذي أسسه نهاد قلعي بتوجيه من وزارة الثقافة عام 1959، فتحدثت بشجن عن الفنان الذي كان بمثابة الأب لها، والذي زرع حبّ المسرح داخل الممثلين والممثلات الذين أسسوا لانطلاق المسرح القومي، وتوقفت دبسي عند قدرته على التوحد مع الجميع حتى غدوا يداً واحدة يعملون بشغف وعشق، مسترجعة خصاله الحميدة المتمثلة بالكرم الشديد والأخلاق النبيلة والعلاقة التي جمعتهم استمرت ولم تنقطع بينهم حتى بعد سفره إلى بيروت.
التصاقه بالهمّ الوطني
وكان لشهادة الفنان أسامة الروماني وقع خاص فلم يتحدث عن كرمه بالمعنى المادي فقط، وإنما كرمه باتساع قلبه لجميع الموهوبين كي يكونوا نواة لتأسيس المسرح القومي، كما أثار الروماني فكرة هامة بعمل قلعي على”تبييء المسرح” برفض النصوص العالمية كما كُتبت وإنما بالتعديل عليها، متطرقاً إلى التصاق قلعي بالوطن.
وتوقف الصالح مع الفنان الكبير سليم صبري الذي شارك رفاق الدراما بحمام الهنا، فوصف قلعي بالإنسانية اللا محدودة، من خلال تقديمه المساعدة لكل محتاج دون أن يطلب إضافة إلى فكره المنفتح، وتابع عن أعماله التي كتبها للتلفزيون وبما تتصف به من ملمس إنساني ومن كتابة عميقة لشخصيات الحارة وصولاً إلى الأعمال التي غدت أيقونة الدراما السورية بإخراج خلدون المالح حمام الهنا ومقالب غوار وصح النوم، ليؤكد بأنه شخصية لامثيل لها أثرت في الذاكرة السورية ولم يأخذ حقه المعنوي والمادي لأنه صاحب كلمة حق وموقف ولم يتنازل. وقد أوجد قلعي كاركترات بقيت خالدة في ذاكرة الشعب السوري مثل أبو عنتر-ناجي جبر- وياسينو –ياسين بقوش- وفطوم حيص بيص –نجاح حفيظ- وخالها أبو رياح –محمد الشماط- حتى إن كثيرين لايعرفون حتى الآن الاسم الحقيقي له وبقي أبو رياح في ذاكرتهم، فعاد بذاكرته إلى ابتسامة قلعي الذي لم يكن يبتسم بشفاهه وإنما بملامح وجهه الوضاء، ليتوقف عند فكرة هامة وهي سرعة البديهة عنده التي مكّنته من كتابة مشاهد إضافية أثناء التصوير من صلب الموضوع.
سفير اللهجة الشامية
وقدم الناقد والمخرج نضال قوشحة مقاربة بين نهاد قلعي وعاصي الرحباني مؤسس مدرسة الرحابنة، فنهاد قلعي كان المحرّك الفعلي لمؤسسي الدراما السورية، ليصل إلى الفيلم المشترك بين دريد ونهاد”عقد اللولو” عام 1964 الذي عدّ الانطلاقة الفعلية الثانية للسينما السورية التي وصلت إلى العالم.
وكان قلعي كما أشار قوشحة سفير اللهجة السورية الذي أوصلها إلى ماوراء الحدود، وهو أول من أوجد أعمال البيئة الشامية وكتب لشخصيات تجذرت بالذاكرة وعبّرت عن الحارة الشعبية في ” حارة كل مين إيده له”.
وتم عرض الفيلم الوثائقي للمخرج مصطفى برقاوي بحضوره بعنوان: “إذا أردنا أن نعرف نهاد قلعي” عام 2010، الذي أطلق اعترافات إنسانية أبكت جمهور أماسي والصالح.
وقد اتخذ الفيلم نمط الدمج بين عرض مشاهد ولقاءات تسجيلية مع رفاق الدراما الذين رحل أغلبهم. إلا أن المؤثر الذي يكشف عمق كتابة قلعي والأبعاد التي كان يرمي إليها حينما رفض في البداية ياسين بقوش الاشتراك بصح النوم لانشغاله بمسرح الشوك، فأقنعه بأن صح النوم مثل مسرح الشوك فحسني البورظان يمثل الفكر العربي وغوار يمثل الفكر المتآمر على الفكر العربي، وفطوم الأرض العربية التي يتم التنازع عليها، وياسين هو الشعب العربي الذي يصدق كل شيء.
واعترف الفنان دريد لحام بأنه كان من المفروض أن يكون لصيقاً أكثر بنهاد قلعي لاسيما في السنوات الأخيرة، وبأنه كان مقلاً بزيارته لانشغاله وعمله خارج القطر، ليصل إلى اللقاء الأخير بينهما في مشفى الهلال الأحمر، وأنا مدين له بالاعتذار، وربما يكون اعترافه شجاعة لإحساسه بالذنب أو بالندم.
وأكملت شهادة المخرج العالمي أنور قوادري المسجلة الحزن الذي كان يعيشه نهاد قلعي باعترافه له حينما دعاه إلى المهرجان السينمائي عام 1989في دمشق بأنه مهمش ومحبط ويعيش في عزلة، وتابع قوادري بتأثر شديد عن الخبر الذي أفرح قلعي بالفيلم الوثائقي الذي تبناه أنور قوادري”مشوار دريد ونهاد” ليضحك قلعي قائلاً”ستعيد الذكريات”
ومازال الجدل
المحطة الأخيرة في أماسي كانت مع ابنته مها قلعي وتوجه لها الصالح بسؤال متى بكى نهاد قلعي؟ لتجيب أنه بكى حينما فرض عليه دور أبو ريشة في غربة ولم يمنح الفرصة لاختيار الدور الذي يرغب به، ومع ذلك أثّر بالجمهور ونجح نجاحاً كبيراً، ودافع بقوة عن أحد المشاهد الذي أراد دريد لحام حذفه، وبكى حينما توقف في استراحة حمص فمسح زجاج سيارته أطفال حفاة رفضوا أن يأخذوا منه النقود”هي هدية لعمو حسني”.
وتحدثت مطوّلاً عن الظلم الذي لحق بأبيها وعن المرض الذي أخذ من روحه وجسده وعن مواقف صعبة مرّ بها إثر إصابته عام 1976، وتابعت عن وقوف القائد الخالد حافظ الأسد إلى جانبه في علاجه حتى وفاته. واسترجعت مرحلة ما بعد المرض بكتابة نهاد قلعي القصص والمسلسلات للأطفال باسم”عمو حسني” ونشرها في مجلة سامر والكفاح العربي، وأعربت عن سعادته آنذاك بهذا العمل لسد الفراغ وحصوله على مبلغ يساعد على نفقات الأسرة.
المسائل الهامة التي توقفت عندها والتي بقيت مثار جدل: الحارة التي سُميت باسم نهاد قلعي فهي ليست راضيه عنها لأنها ليست حارته وحارة صغيرة، والعبث بلوحة الدلالة، إضافة إلى رفضها تحويل صح النوم إلى مشروع أفلام كرتون لأن رسم الشخصية لم يكن دقيقاً ولا مناسباً له وتضمن ألفاظاً نابية لم يكتبها نهاد أُضيفت إلى كتابته، كما أشارت إلى نقطة مضيئة في علاقة دريد ونهاد حينما حوّل مسلسل”كل يوم حكاية” إلى عمل إذاعي لعدم تبنيه من قبل التلفزيون ساهم دريد لحام بتسجيله في أستوديو بيروت مجاناً.
في نهاية المطاف بقي نهاد قلعي بعد رحيله بربع قرن في وجدان وذاكرة الشعب السوري والعربي وكرّم من قبل الدولة والجمهور.
ملده شويكاني