دموع هبة مرعي على الورق..مع بالغ الفقد
إنه نشيج طويل يحمل الأسى والحزن والفرح المخادع ربما، ترسله الشاعرة السورية “هبة مرعي” من بلاد المهجر، على هيئة نصوص نثرية، إلى تلك التي غادرت صباحات جدائلها ووصاياها المقدسة، وهي تنظر إلى الجسد المسجى أمامها، لقد رحلت، وما تلك القصائد، إلا مرثيات ملونة الطبع وواحدة الوجد، تتالى فيها الذكريات ويعلو صوت لا وعيها بشكل متقطع شكليا، حملته تلك الأحرف والكلمات والإيحاءات الشعرية بعفوية وببساطة، إلا ان الخيط الخفي الناظم لإيقاع تلك المراثي فهو نفسه، إنه يستمر من تلك اللحظة، التي أغلقت فيها والدتها عينيها على الحياة، حتى اللحظة التي لم تزل فيها “هبة” وهي “أم” تبكي “عروسة ” الزعتر، وحنين المشط، قبلة الطمأنينة ونظرة العتب الرؤوم، العتاب الحنون، والقسوة البالغة الحنين، وربما ما يجعل من “إليكِ مع بالغ الفقد” واحدا من أهم نتاجات “هبة” الشعرية” هو تلك السمة الحرة في التعبير، المنفلتة من قيد الوعي والذاكرة المنطبعة فقط كصور بلا روح، فإن كان ثمة فراغ في مكان ما عند استحضار عوالم تلك المرأة، فإن اللغة الأنيقة، والصور الشعرية المسبوكة بقوالب من مرمر، تعيد ملئها بما يفيض عن الذكرى، وتحتفظ فيه اللوعة.
نشيج جميل على ألمه، ونبيل على فداحته، وفيه روح مغلفة بالضوء،رغم أنه يشكو الفقد، ببالغ الفقد.
“حين أحدثكم عن امي/أعتذر، أشتاق، وأتوسل/غادرت هذا العالم البائس/ وبقي طيفها يجلدني كل ليلة/إليكِ مع باغ الفقد/ لجمع روحي مما يقارب عقدين/وتلوي ضلوعي إجابة صدى صوتكِ/في ذمة ذلك الغياب”.
خيار الشاعرة في ذهابها نحو قصيدة واحدة متقطعة في الشكل، ينظمها الموضوع والحال التخيلي والإحساس الداخلي للشاعرة، لتبدو وكأنها قطعة واحدة، تتخللها ندوب في القلب والروح، وكأنها غصات متتالية، تقف عنده، لتستطيع أن تتابع، وهو خيار عاطفي، فالعودة إلى الماضي الذي جَمّد الكلام في حنجرتها فيه، وهي ترى لذلك الجثمان الذي ملأ الدنيا في عيونها بكل ماهو خير وجميل، هامدا، وعليه علامات غيابه الفارقة، ثم الذهاب نحو السرد اليومي لحياتها التي تود أن تشاركها إياها على الملأ” لتتابع “هبة” في تنهيدتها الطويلة تلك، حكايات يومية مكثفة، مشبعة بالإيحاء الصادق، متخلية عن الرغبة في العويل، بل كما يجب بها أن تفعل، إنها تحترف الحكاية الشعرية، وهي في هذه المجموعة من النصوص، تعلم تماما ماذا تفعل، وكأنها تكتب القصيدة ولكن بشروط الحكاية، سنقف معها عند تلك البداية حول “جثمان أمها” المسجى، ثم سندخل إلى يومياتها وانطباعاتها قبل رحيلها وبعده، سنعود أطفالا بعمرها، لنحظى برؤية حقيقية لما ترويه، رؤية ثلاثية الابعاد، تحقق مقولة “أرني ولكن باللغة”، وهذا ما فعلته الشاعرة في الكتاب الآنف ذكره.
“عقدة الموت استوطنتني/ منذ رحيلكِ إلا الآن، حين غيب الموت وجهك الجميل، وأصبحت الحياة في عيني حفنة ترهات لا أكثر/يا قلبكِ الجميل كيف مات؟/ كل الأشياء تأتي مبعثرة/ إلا حزني عليكِ/ يأتي مجتمعا كل ليلة/ أنيقا، مرتبا/وكل ما اذكر من تلك الليلة، أنني أغمضت عيني بشدة كي أغفو/ظناً إذا استيقظت في الصباح التالي/سأجدك تضحكين وتقولين أنك كنتِ تمزحين/ لقد كانت مزحة مرهقة يا أمي”.
تبتعد الشاعرة عن الزخرفة اللفظية، وغوايات اللغة في الذهاب نحو ابتكارات أكثر شخصانية بين الحدث وربطه بعالم القصيدة، فالموضوع هنا، هو موضوع عام وخاص، عام كونه يقدم لحالة مرّ ويمرّ فيها العديد من الذين أُصيبوا بهذا الفقد، وخاصة من جهة تلك النظرة الفريدة، التي كانت “هبة” تحياها تحت نظرات عرّابة حلمها، وحامية نومها من ذئاب الوحشة وأشباه الخوف، وهذا التقشف اللغوي الذي تبديه قصائد “إليكِ مع بالغ الفقد”، يضفي على حساسية الثيمة، ونظرة الشاعرة، المزيد من سور الجمال الأخاذ ولكن بألمه وحزنه، بقسوته وغربته، خيار موفق بالتأكيد للخوض في شأن ليس من السهل أبدا، أن يخطو الشعر على طريقه، إلا عند صاحب كل باع حقيقي، في التعامل مع فن الرثاء ولكن بأسلوب مبتكر، فاليوميات التي تختبئ في دفتي الكتاب، اليوميات الخاصة بامرأة كابدت ما كابدت جراء هذا الخسران، هي الآن تغتسل بأمطار القراءة وتتطهر ببروق ورعود، لمعت في خاطرها، بينما اللوعة تسطو على الكبد، فتفت فيه، لأن الدنيا أم، وهي يتيمة.
رغم محاولة الشاعرة، إظهار تصالحها مع الفقد، إلا انها ومنذ البداية، أي منذ العنوان “إليك مع بالغ الفقد” تخبرنا أنها ليست كذلك، فكيف يمكن أن تتصالح الروح المتشظية مع تشظيها؟ وكيف تنسى رائحة الصباح، مَن مِن خلالها، عرفت ما هو الصباح، وسر ولادته، من أين يذهب وإلى أين يجيء، إنها من فسّر لها العالم ولكن بالبهاء والجمال، ليجيء الواقع خارج ظلالها الوارفة، قاسيا لا يرحم، بلا قلب كل ما فيه، وما الفرح الذي فيه، إلا حزن أقل.
“تغيرت يا عزيزة قلبي/وتغيرت المدن وأحوال البلاد/ صار لدي طفلتان وددت لو تريهما/ كبرتا/وتتقاسمان معي ملابسي ومساحيق التجميل”/ وهنا تنقطع مصالحة الذات مع ذلك الغياب العظيم، لتستسلم الشاعرة، لأول هبوب لذكرى ما عرتها لحظتها، فأفلتت دفة الحكاية، لتجيء العبارة العالية مباشرة بعد أظهار نوع هذا التصالح المزعوم:/اشتقتكِ وأحن ليدق بابي وتكونين أنت في كل مرة/أٌقنع نفسي ولا تقتنع برحيلك/ وسيبقى لذلك السبت المظلم/خنجر مغروس في ظهري/ فلا أطاله فأسحبه/ ولا قدرة لي على احتمال ألمه/ الأرض تحتي بعدك تزلزت”.
المفردات على بساطتها والصور على لمعتها، حتى التشابيه التي لم تختر المبهم والغائم، بقدر ما عرفت أن الوضوح هو الطريق، صاغت عوالم “هبة مرعي” الشعرية في “إليك مع بالغ الفقد”، كتاب سوري آخر ولد في المهجر، إلا أنه يخفق براية حزن محلية.
تمّام علي بركات