العنف القائم على النوع الاجتماعي.. من الذاكرة إلى التذكير
طارق دربو
إذا كانت الذاكرة هي التي تحفظ الواقع من دون ذكره، هذا يعني أننا سوف نبقى بعيدين عن الحلول والمعاينة الوقائية لما نتعرض له من تجزر في الرأي وعدم القدرة على النهوض في مواجهة العنف؛ لأن صمت الذاكرة يعني صمت العقل وعدم التذكير بأن هناك عنفاً في المجتمع يتعرض له الكثير من الرجال والنساء بشكل عام، ولكن تبقى المرأة هي أكثر من تتعرض للعنف في المجتمعات.
إن الترجمة الحرفية لمعنى كلمة الـ “Gender” على أنه “الجنس” يثير الكثير من التساؤلات والجدالات، فالمعنى المتعلق بـ “النوع الاجتماعي” يتميز كل التمييز عن كلمة “الجنس”. فـ الجنس يشير إلى الفروق الجسمانية/البيولوجية بين الذكور والإناث، وتحدده التركيبة البيولوجية ولا يتغير دون تدخل جراحي. أما النوع الاجتماعي فيعني الفوارق الاجتماعية المكتسبة بين الذكور والإناث في أي مجتمع والمتجذرة بعمق في جميع الثقافات وتتنوع بشكل واسع داخلها أو فيما بينها، وقابلة للتغيير، وتحدد أدوار كل من الذكور والإناث من مسؤوليات وفرص وامتيازات وخيارات وقيود في كل ثقافة من الثقافات. و تحدده العوامل الاجتماعية: التاريخ، الثقافة، التقاليد، العادات الاجتماعية، الدين. ويشمل مفهوم “النوع الاجتماعي” في أي مجتمع التفاعل الاجتماعي للأولاد والبنات، وللرجال والنساء الذي يحدد أدوارهم، ومسؤولياتهم، وفرصهم، وامتيازاتهم، ومحدداتهم، وما هو متوقع منهم.
كما يمكن تعريف العنف القائم على النوع الاجتماعي على أنه مصطلح شامل لكل فعل مؤذٍ يرتكب ضد إرادة شخص ما ويعتمد على الفوارق المحددة اجتماعياً بين الذكور والإناث (النوع الاجتماعي)، وتشكل أعمال العنف القائم على النوع الاجتماعي انتهاكاً لعدد من حقوق الإنسان العالمية التي تحميها المواثيق والاتفاقيات الدولية، وتعد الكثير من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي – ولكن ليست كلها – أفعالاً غير قانونية وجنائية في القوانين والسياسات الوطنية. و يشار إلى العنف القائم على النوع الاجتماعي أحياناً بـ “العنف الجنسي القائم على النوع الاجتماعي”. ووفقاً لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة فإن واحدة على الأقل من كل ثلاث نساء تعرضت للضرب أو الإجبار على ممارسة الجنس أو شكلٍ آخر من إساءة المعاملة خلال حياتها؛ لذا تعتبر مشكلة العنف ضد النساء والفتيات مشكلة عالمية.
من الذاكرة إلى التذكير بين الداخل والخارج
من هنا يتثنى لنا القول إن الموجات الصادمة التي سببتها الأزمة السورية بعد ثماني سنوات تتحمل النساء السوريات العبء الأكبر من هذا النزاع المفتوح، حيث إنهن دفعن ثمن الوصمة الاجتماعية والنزوح/ اللجوء في البلدان المجاورة، التي أصبحت مجتمعة تؤوي أكثر من أربعة ملايين لاجئ سوري. وفي جميع الأحيان تقريباً، تقع على المرأة السورية الوطأة الكبرى للعنف القائم على النوع الاجتماعي، والذي ينزع إلى التفاقم في الأوقات الصعبة، كما أن الضعف في الروابط الأسرية تفاقم نتيجة الهجرة القسرية والنزوح وسقوط عدد كبير من الشهداء؛ مما زاد من التحرش الجنسي وزواج الأطفال والحمل المبكر والاستغلال وارتفاع معدلات الوفيات، وهذه تعتبر جميعها مواد دسمة يتصيدها الإعلام لاستغلالها بطريقة أو بأخرى ضد الدولة السورية.
إن تحديد الأنواع القائمة على العنف المبني على النوع التي تتعلق بـ خمس فئات هي: (العنف الجنسي )الاغتصاب، الاعتداء الجنسي، التحرش الجنسي، (العنف الجسدي )الضرب، الصفع، الضرب المتكرر أو باستعمال أداة، ( العنف العاطفي)الاستغلال النفسي، ( العنف الاقتصادي) الحرمان من الموارد، (الممارسات التقليدية الضارة)الإكراه على الزواج، ختان الإناث.
من خلال هذه الأنواع تظهر أثار جسيمة ومباشرة أغلبها طويل الأمد تتعلق بالآثار الصحية الجسدية وما تشمله من وقوع حمل غير مرغوب به، ومضاعفات عمليات الإجهاض غير الآمنة، والعدوى في فيروس الإيدز، والتأثير على الصحة العقلية والنفسية، الاكتئاب، القلق، اضطرابات ما بعد الصدمة، الانتحار، الموت، كما يؤثر العنف أيضاً على حياة الأطفال وتطورهم ومشاركتهم بالمدرسة. وتمتد الآثار الاجتماعية إلى الأسر والمجتمعات، وقد يتم وصم الأسرة بسبب العنف القائم على النوع الاجتماعي. على سبيل المثال، عندما يولد طفل نتيجة للاغتصاب، أو عندما يقرر أفراد الأسرة الوقوف إلى جانب أحد الناجين من العنف، فإن أفراد المجتمع قد يتجنبون التواصل والتعامل معهم. كما تشمل الآثار الاقتصادية تكاليف نظم الرعاية الصحية والاجتماعية، وتقلل من قدرة العديد من الناجين على المشاركة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية.
لهذا فالعنف القائم على النوع الاجتماعي من الداخل يعتبر من أهم التحديات التي تواجه المجتمع السوري على كافة الأصعدة القانونية والاجتماعية والسياسية والمؤسساتية. يستمر هذا النوع من العنف بناء على التباين في علاقة القوة بين الرجال والنساء والكبار والصغار، وفي مجمل الأحيان يتم استثمار القوة الممنوحة للرجال في المجتمع في قمع النساء والصغار بكافة الوسائل المتاحة والمتجذرة في النظام المجتمعي. وتراوح أشكال العنف بين النفسي واللفظي والجسدي والجنسي، وكذلك الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي. ويصل العنف إلى حد القتل على خلفيات ما زالت مقبولة بين أوساط معينة في المجتمع. وفي نفس الوقت تتعدد مصادر العنف والتي يصل مداها الأقصى في حالة العنف الموجه ضد النساء والأطفال وباقي أفراد الأسرة كنتيجة لحالة عدم الاستقرار في سورية، أما العنف الأسري فيشكل مصدراً مباشراً وواسعاً للعنف ضد المرأة خاصة وباقي أفراد الأسرة عامة، بناء على النظام الثقافي الأبوي داخل الأسرة، وما زال التعامل مع العنف المبني على النوع الاجتماعي مسألة حساسة من حيث اعتبارها مسألة أسرية خاصة في ظل اعتبار جسد المرأة تابعاً في غالب الأحيان لصاحب القرار في الأسرة سواء أكان زوجاً أم أباً. وبناءً على ذلك فإن التدخل من قبل المؤسسات في هذه المسألة يشكل حساسية كبيرة نظراً للخصوصية المجتمعية داخل الأسرة، فعدم وجود آلية واضحة للوصول إلى حلول للعنف الذي يواجه النساء عبر هذه المؤسسات يكرس ثقافة العنف ويجعله مقبولاً، ويتم التعامل معه بسرية، وتبتعد المؤسسات ذات الطابع الرسمي وغير الرسمي عن ردع ممارسات العنف أو الوصول لحل عادل لها، وتبقى كل التجارب المقارنة في معالجة هذه المسألة المتعلقة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي ما زالت محدودة.
بالإضافة إلى هذا كله لم يتم إنتاج تقارير إخبارية متوازنة حول العنف القائم على النوع الاجتماعي. بل بقيت وسائل الإعلام التقليدية والجديدة في المنطقة العربية مستمرة في إدامة الصور النمطية والتعميم حول العنف القائم على النوع الاجتماعي. كما أن التقارير تعاني من انعدام المهنية والتحيز وتزيد من معاناة السوريين في مخيمات اللاجئين المنتشرة في شتى أرجاء المنطقة. ويميل الصحافيون في اختيارهم للأخبار الساخنة إلى تلطيخ سمعة الضحايا أو تعريض حياتهم للخطر، بدلاً من تسليط الضوء على محنتهم بطريقة مهنية. فإن بعض الصحافيين كثيراً ما يفشلون في ربط العنف القائم على النوع الاجتماعي بقضايا حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والأعراف الاجتماعية والتنمية المجتمعية، للأسف الشديد هذا لا يشجع على فهم أعمق للقضايا المطروحة وسبل التصدي لها، وهذا أدى إلى مزيد من العنف النوعي الاجتماعي.
ومن هنا يمكننا القول إن أكبر أزمة إنسانية تمر فيها سورية هي أزمة العنف بكافة أشكاله ولا يمكن حصر تداعيات هذا العنف لا على البلد ولا على البلدان المجاورة لأنه شكل مخاطر عليها نظراً لارتباطها المباشر به. فبعد دخول الأزمة عامها السابع بقي المجتمع السوري يعاني من مشكلات تواجه النساء والرجال والفتيات والفتيان، منها الموت والعنف والنزوح. وغالباً ما تضع الصراعات النساء في خطر متزايد من العنف والضعف. وهذا يخلق عدم التمكين الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، بالإضافة إلى الفقر و سياقات تكون فيها المرأة أكثر عرضة للإساءة والاستغلال الجنسي. وقد أظهرت النساء والشباب السوريون مرونة كبيرة في مواجهة الخسائر والحرمان، ولكن بقي العنف القائم على النوع الاجتماعي بالرغم من عودة قسم كبير من اللاجئين يشكل بالنسبة للنساء بعداً من الأبعاد كونهم ضحايا ظرف من الظروف.