تونس.. ومعارك “السّتُرات” بجميع الألوان
تونس- البعث- محمد بوعود:
شتاء ساخن تعيشه تونس على جميع المستويات، وارتفاع غير مسبوق في نسبة الاحتجاج واتسّاعها، وشمولها لكل القطاعات تقريباً، وموجة غضب تجتاح الشارع، خصوصاً بعد عرض قانون الموازنة العامة لسنة 2019، والمصادقة عليه، وما احتواه من فصول رأى البعض أنها تزيد في تكريس الأزمة الاقتصادية التي ضربت الكثير من الفئات، وتوشك على القضاء تدريجياً على منوال التنمية الموروث عن العهود السابقة، والذي لم يعد قادراً على المضي قُدُماً أو حتى الصمود في وضعه الحالي، نتيجة السياسات الفاشلة التي اعتمدتها الحكومات المتلاحقة منذ أحداث 14 كانون الثاني 2011 إلى الآن.
وإذا كان المحتجّون الفرنسيون قد اختاروا التمترس وراء “السترات الصفراء”، كلون مميّز لتحركاتهم وتعبيراً عن غضبهم، فإن التونسيين، قد انتفضوا بجميع ألوانهم تقريباً.
البداية كانت مع أصحاب السترات البيضاء.. أساتذة التربية ومعلّمو المدارس الابتدائية والثانوية وحتى أساتذة الجامعة، الذين يخوضون بمختلف أصنافهم، ومنذ أكثر من أسبوع، معركة ضارية ضد سُلطة الأشراف، تمحورت خصوصاً حول سلسلة الرُّتب والرواتب، وتحديداً الزيادة في الأجور والمنح، التي يرى المربون أنها لم تعد تكفي لقضاء أبسط الحاجيات، في ظل ارتفاع غير مسبوق لأسعار السلع والإيجارات والخدمات والمواصلات، وكل المناحي المعيشية التي تزداد تعقيداً كل يوم، والتي دحرجت المربّين من طبقة وسطى تعيش نوعاً معيّناً من شبه رفاهية، إلى طبقة فقيرة تركض ليلاً نهاراً وراء تحصيل الحد الأدنى من الكفاف.
المربّون في تونس، وخصوصاً أساتذة الثانوي، خاضوا مختلف أنواع الاحتجاج، وجرّبوا كل أنواع الإضرابات تقريباً، وأخيراً لجؤوا إلى التصعيد، فقاطعوا الامتحانات الأسبوع الماضي، وزحفوا على مقرات المندوبيات الجهوية للتربية، واحتلوا البعض منها، وأمس انضمّ إليهم معلّمو الابتدائي، وسُجّلت استقالات جماعية لمديري المعاهد الثانوية في عدد من الولايات، قد تتوسّع أكثر إذا استمرّت وزارة التربية والتعليم في التشبّث بموقفها الرافض لأي زيادة في المستحقات المالية للمعلمين.
على صعيد آخر، دخل أمس أصحاب السترات السوداء، المحامون، في حركة احتجاجية وإضراب شمل جميع المحاكم، احتجاجاً على الفصل 34 من قانون المالية لسنة 2019، والذي يرون فيه اعتداء على حقّ المحامي في الاحتفاظ بالسرّ المهني بينه وبين موكّله، خصوصاً وأن فيه إجباراً على الإدلاء بكل تفاصيل المسائل المالية والاتفاقات التي تتمّ بين المحامي وصاحب القضية، والفواتير التي يدفعها، والمبالغ التي يتم الاتفاق عليها، وهو ما يرى فيه المحامون انتهاكاً لخصوصية العلاقة بينهم وبين موكّليهم، ومحاولة من الحكومة للتدخّل السافر في المهن الذي يطبع نوعية العلاقة بينهم وبين موكّليهم.
أما أصحاب “السترات الأنيقة” موظّفو البنوك والمؤسسات المالية، فيستعدّون بدورهم لمرحلة قادمة من التحركات الاحتجاجية، خاصة وأنهم يرون أن الحكومة ترتكب خطأ جسيماً حين أقرّت فصلاً في قانون المالية الجديد، ينصّ على تحديد العمليات المالية التي يتمّ تداولها نقداً بسقف لا يتجاوز الخمسة آلاف دينار فقط (حوالي ألف وسبعمئة دولار أمريكي)، على أن تتم العمليات الأعلى من ذلك بصكوك بنكية أو تحويلات أو كمبيالات، وهو ما رأى فيه القطاع ضرباً من العبث، واعتداء صارخاً على السوق المالية، التي لا يعرف الجميع أنها تعاني بطبعها من كساد كبير، وأن مثل هذا القرار لن يكون إلا تشجيعاً وتقنيناً للمعاملات خارج النطاق البنكي، أي تعميماً للاقتصاد الموازي وشرعنة للتهرّب والمضاربة والبيع خلسة، ويتندّر البعض في تونس بأن ثمن الرأس الواحد من البقر قد فاق سقف الخمسة آلاف دينار، في حين مازالت الحكومة تعتقد أنه مبلغ كبير، ويجب التوقف عنده، وعدم تجاوزه في المعاملات النقدية.
في الوقت نفسه تستعدّ مجموعات شبابية كبيرة وواسعة الانتشار إلى موعد الرابع عشر من كانون الثاني القادم، حيث هددّوا بالنزول إلى الشارع في موجات كثيفة، وأطلقوا على أنفسهم مجموعة “السترات الحمراء” على غرار الفرنسيين من حاملي السترات الصفراء.
ويتردد في تونس أن الكثير من الفئات الشبابية تستعد لهذا الموعد، وستنزل إلى الشوارع في العاصمة وفي كل المدن، احتجاجاً على البطالة وارتفاع الأسعار الذي بات جنونياً، وعلى التهميش والفقر، وخصوصاً على فشل الحكومة، والحكومات التي سبقتها، في إيجاد الحلول والمخارج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي ضربت كل الطبقات والفئات، ولم تستثن أحداً، وباتت تهدّد جديّاً بإفلاس الدولة وسقوطها في مستنقع الدول الفاشلة.
وقد تحدّثت مصادر أمنية عن اعتقال بعض نشطاء “السترات الحمراء” والداعين إليها، في حين تقول تسريبات أن أحد مديري القنوات التلفزيونية الخاصة قد تعاقد على حياكة خمسين ألف سترة حمراء، وأن آخرين من حزب نداء تونس، الحاكم سابقاً، يشجّعون المجموعات الشبابية على الاندفاع في موجة السترات الحمراء التي من المتوقّع أن تعرف أوج تحركها وغضبها في موعد الرابع عشر من كانون الثاني القادم.
ولا شكّ أن كل هذه التحركات، لكل القطاعات تقريباً، هي تعبير حقيقي على فشل الحكومة في إخراج البلاد من أزماتها المتعاقبة، وهي أيضاً تعبير عن حالة التردّي والعجز شبه الكامل للسلطة طيلة الثماني سنوات الماضية عن التوصّل إلى تلك الصورة التي حلمت بها أجيال متعاقبة من التونسيين، الذين ظلّوا إلى الآن مُنهكين بالضغوط الحياتية، والإرهاق المعيشي الذي استنزف كل قدراتهم، ولجأ الشباب منهم إلى الهرب خارج أرض الوطن، لمن استطاع، والباقي تآكلته البطالة وانتظار فرص التوظيف التي لا تأتي، والغلاء الذي يطحن العظام، ويفتك بالمقدرة الشرائية لكل الطبقات بلا استثناء.
ولعلّ الوقت والجُهد والثمن الباهظ الذي وقع استنزافه في المعارك السياسية التي لا تنتهي، وفي المناورات والتحالفات والتجاذبات، كان كفيلاً، لو وقع استثماره في البحث عن حلول حقيقية، بأن يوفّر الحد الأدنى من المطالب الشعبية، التي طال تأجيلها إلى درجة التّسويف، وطال انتظار الناس إلى درجة اليأس.