أين هذا من ذاك؟!!

عبد الكريم النّاعم
قبل فترة قريبة جاءتني دعوة من صديق عزيز لحضور عرس ابنه، فاعتذرت بلباقة تليق بلطف الدّاعي، وفي لحظة من لحظات الاستذكار توقّفت بين أكثر من عالم، فقد أوغلت بي الأيام، حتى عايشت أجيالا فأجيالا، ومقاطع من الحياة المتنوّعة، من عوالم القرى والبدو، حتى عوالم المدينة، بما فيها من تنوّع.
تذكّرتُ تلك الأعراس في القرى قديما، وكيف كانت تفتح أفاقا من الحلم، وزهو الثياب، والدّبكات الرائعة، لقد انقرض هذا في معظمه، وبقيت منطقتان تحتفظان بتلك الأصالة، وهما “جبل العرب”، و”وادي الفرات”، المُصادَر، المدمَّر، المحروق.
عايشتُ سهرات المدينة في حمص ومناسباتها، وما تزال في الذاكرة، كمنطقة حلم، أهرب إليها في كثير من الخلوات مع النّفس، ماتزال أصداء الموّال السّبعاوي، والرقص الشيخاني، والثياب العربيّة المطرّزة بطريقة تُدخل الأنس إلى أبهاء الرّوح، فأين أعراسنا الآن، ممّا قرّ واستقرّ في تلك الذاكرة الحلم؟!!
قبل عدّة سنوات كان لامناص من حضور مناسبة (عرْس)، فذهبت، وكان الترتيب جميلا، والفسحة فسحة دار عربيّة قديمة يتنفّس فيها الحجر الحمصيّ الأسود، ولمّة من الأقرباء والأصدقاء، يُضاف إلى ذلك أنّ المناسبة كانت حميمة.
لا أدري كيف يُمكن احتمال كلّ هذا الصخب في الأصوات؟، كالعادة، أغلقت مجرى السمع ببعض من المحارم الورقيّة، لأخفّف من وقع ذلك الضجيج، افتقدتُ الأصوات الجميلة التي كانت تصدح بالقصائد المُنتقاة، وتقاسيم الآلات الموسيقيّة يتناوب عليها عازفون حضرت أرواحهم فيما يصلنا منهم، افتقدت الطرب الأصيل، والاستماع المرهَف الذي ما تكاد تسمع فيه غير آهات القلوب تبلغ حدّ اللّهاة.
لم يطل الوقت على زعيق الذي كان يصرخ، ويولول بأعلى ما في حنجرته مدعومة بما تمنحه المايكروفونات الحديثة من قوّة مُضافة، فقد بدأ بغناء يُشبه (العدّاويّات) القديمة، وامتلأت ساحة (النّط) بالصبايا والشباب، ومَن لم يبلغ حدّ الشيخوخة بعد، ولعلّ أغرب ما فاجأني أنّ ذلك الذي يزعق بدأ يعدّ، ويكرّر: “نُطّوا.. نُطّوا.. جُنّوا.. جُنّوا، والأجساد تقفز نحو الأعلى والأسفل على طريقة (الكنغر)، ويردّدون خلف ذلك الذي أثار الكثير من الأسى في نفسي، لأنّنا وصلنا إلى درجة يُرثى لها بحقّ.
لا أعرف من الذي قال: “إذا أردتَ معرفة شعب فاستمع إلى موسيقاه”، وهي مقولة في العمق، وفي الصميم، تُرى إذا كانت هذه موسيقانا، وأغانينا، وهويّتنا الفنيّة الحاضرة، فهل نحن إلاّ مخلَّفات: (نُطّوا و.. جُنّوا)؟!!
تذكّرت جملة نقلتها من أحد كتب التّراث، لها علاقة بهذا السّياق، فقد “سُئل إسحاق، – والزمن زمن العبّاسيّين- سُئل عن المُجيد من المُغنّين، فقال: “مَن لَطُفَ في اخْتلاسه، وتمكّنَ من أنفاسه، وتَفرَّعَ في أجناسه، يكاد يعرف ضمائر مُجالسيه، وشهوات مُعاشريه، يَقرع مسمَع كلّ واحد منهم بالنّحو الذي يُوافق هواه، ويُطابق معناه”. هذا كلام على درجة عالية من التحديد، والمعرفة الموسيقيّة، وعِلم النّغمة، ومعرفة الإمكانات الصوتيّة، كما أنّه يُسافر في أمداء علم النّفس بعيدا، ويحرص على إقامة علاقة روحيّة، ذوقيّة بين المغنّي وبين من يستمع إليه.
تُرى أين نحن الآن من ذلك كلّه؟!!
ما أظنّ أن أمر الفنون الإبداعية بعامّة هو أقلّ أهميّة من الاقتصاد، والتربية والتعليم، وتحصين البلاد.
aaalnaem@gmail.com