ثقافةصحيفة البعث

القصة وتطور أشكال حكايتها

تظهر الدراما التلفزيونية الهجينة بين كل من المسرح والسينما، وكأنها امتداد تقني لحالة الحكواتي وعوالمه الحكائية القائمة على أسلوبه في فن القص، تلك التي تتعلق بمهارته وأسلوبه الشيق في رواية الحكاية لجمهور السميعة، يوما تلو آخر؛ الجمهور نفسه سيكون في الغد، وفي نفس الموعد الذي يبدأ فيه الحكواتي قصته من حيث انتهى أمس؛ والذي كان غالبا في شهر رمضان عندما كانت ولا زالت تُعتبر الدراما، نوعا من التسلية الرمضانية، وهكذا سوف تستمر الحكاية طيلة الأيام الثلاثين، وأغلب تلك الحكايات، كانت قائمة على السيرة الشعبية وأبطالها، التي يحبها الجمهور ويتفاعل مع أحداثها.

هذا الجمهور كما يرى”جوستاف لو بون” عالم الاجتماع الفرنسي، يستمع للقصص بكل ما فيه من حواس، وقد قال ما قاله بعد أن جلس بين مجموعة من العرب لينظر إليهم ويشاهد انطباعاتهم بينما يستمعون إلى القصص، رآهم كيف يضطربون ويهدؤون، كيف تلمع عيونهم، كيف تنقلب دعتهم إلى غضب وبكاؤهم إلى ضحك؛ الحكواتي أو هذا المظهر الفلكلوري من مظاهر القص، كان من أهم أشكال التمهيد للمرحلة المقبلة في فن حكاية القصة وتأثر الجمهور فيها.

وإذا عدنا لأساس أكثر قدما في الشكل، تحضر شخصية شهرزاد، وكأنها الشكل الأول لهذه الدراما، في قصتها الشهيرة القائمة على حكايتها القصص لشهريار على مدى أيام طويلة، حيث كانت في كل يوم، تنتهي بمكان مشوق بحجة النعاس، حتى تكون والملك على موعد مع كفاية القصة في اليوم الثاني، وذلك هربا من الموت، واستمر الحال على هذا المنوال ألف ليلة وليلة؛ هذه الشهرزاد، خرجت من الكتب، ودخلت كل بيت.

يمكننا إذا في ظل ما وصلنا من الموروث العربي، أن نعتبر أن كل من حالة شهرزاد وانتقالها لأسباب عديدة، منها دينية بحتة، إلى حالة الحكواتي، هو الأساس أو النواة لمفهوم تطور شكل تقديم الحكاية، ومن هنا جاءت فكرة الحلقات المتسلسلة، فتحولت من شهرزاد تحكي لشخص، إلى حكواتي يحكي للبعض من الجمهور، إلى التلفزيون الذي فيه يشاهد المتفرج الحكاية على شاشته في كل مكان، طبعا لا ننسى مرور هذه الدراما بالفترة الإذاعية، المرحلة المهمة التي عملت فيها الدراما الإذاعية، على تمهيد السمع للرؤية؛ -الحديث هنا عن الدراما المتسلسلة، والمسرح والسينما لا ينضويان في الحديث- وفي الوقت الذي يعتبر فيه بعض النقاد أن الدراما التلفزيونية، تعاني خللا في “D N A”، باعتبار أن أي حكاية-قصة، يمكن أن تُحكى مهما كان طولها ب3 ساعات على الأكثر، وما من داع لهذه الحلقات المتسلسلة، إلا أن المعطيات اثبتت أن التلفزيون كشكل من أشكال تقديم تلك الدراما، قضى على أي منافسة سابقة، حتى أنه صار يستوعب كل من المسرح والسينما، وما من شيء إلا ويقدر هذا الجهاز، والذي يسميه العديد من الغلاة ب “الشيطان الملون” على استيعابه.

تغير الشكل كان لا بد أن يلحقه ببطء تغير في المضمون، فعوضا عن قصص الأبطال وعوالم الجن والسحر، ستأتي العديد من الموضوعات الأخرى القادمة من الحياة نفسها، ومن الانفتاح أيضا على ثقافات أخرى وحكايات قادمة من تلك الثقافات، تم إعدادها لتوائم مجتمعها وجمهوره، ومن هذه الموضوعات: (الحب، الحرب، الجريمة، الدراما الاجتماعية المنوعة، دراما البيئة، وغيرها)، وباعتبار أن بديات أي تطور تقوم أساسا على ما سبقه، فإن التطور الدرامي التلفزيوني الذي حصل لدينا، بدأ من حيث انتهى عموما كل من الحكواتي والدراما الإذاعية، التي بقيت مستمرة حتى اليوم، لكن بوتيرة أخف وجمهور اقل، استمرار أيضا يمكن وصفه بالفلكلوري، لذا من الطبيعي أن يكون هذا التطور في بدايته قائما على أسس متينة، هي أسس الحكاية نفسها، والذي تغير فيها هو “كيف نحكيها”، لتجيء في ستينيات  القرن المنصرم العديد من الأعمال القوية، والتي أسست لقيامة درامية تلفزيونية منوعة، فيها التراجيديا والكوميديا كل بمواضيع متعددة، فاندفع الإنتاج الدرامي التلفزيوني خطوات هامة إلى الأمام، وبدأت الدراما التلفزيونية ترسم ملامحها، وتمكن المشاهد من مشاهدة الأعمال الجيدة والهامة ذات المضامين التي تخدم أهدافاً اجتماعية وتاريخية مثل “انتقام الزباء، الجرح القديم”، وجاءت أيضا الأعمال الهامة لكل من دريد لحام ونهاد قلعي، بعد أن برزا في مسلسلات مثل “صح النوم، مقالب غوار وغيرها” ومعهما كان نجوم الكوميديا في ذلك الوقت مثل نجاح حفيظ وناجي جبر الشهير بـ “ابو عنتر” وياسين بقوش وعبد اللطيف فتحي الشهير بـ “أبو كلبشة” وآخرين.

هذا الشكل من الدراما، تم تصويره بمعظمه بين حيطان الأستوديو الذي حاول أن يحاكي المكان، سواء كان قصرا، أو مقهى شعبيا، إلا أن نقلة نوعية أخرى ستحصل على الشكل، وهو خروج الكاميرا من جدران الأستوديو، لتنفتح عدستها على العالم الخارجي وأنواعه بين مدينة وريف وغابة وصحراء..الخ، وتُحسب محليا هذه النقلة للمخرج “نجدت أنزور”، الذي كان أول من خرج بالكاميرا ليصور خارج الأستوديو، واكتملت بهذا أركان “كيف تحكي”، فالحكاية لها كُتابها، والممثلين الذين يؤدون شخوصها، وها هي في مكانها الطبيعي حيث تحدث، وتُقدم للجمهور على طبق من ذهب، من خلال الشاشة الفضية.

اليوم ثمة شكل جديد بدأت الدراما المتسلسلة بالمشي ولو بخجل بين أروقته، وهو دراما “اليوتيوب”، حيث بدأت العديد من الأعمال الدرامية ببث حلقاتها على قنوات اليوتيوب، وهذا الشكل ربما سيعيد تقديم الحكاية إلى صيغتها الأولى، حين كانت تحكى لشخص واحد، حيث سيصبح لكل واحد من الجمهور حكايته التي يود أن يراها، وما هي إلا كبسة زر، حتى يحصل على ما يريد، وربما بعد فترة ليست بالبعيدة، تصبح الدراما التلفزيونية، أيضا مظهرا فلكلوريا أمام ما هو قادم من تطور تكنولوجي، يؤثر في جميع مناحي الحياة، ومنها بطبيعة الحال الدراما.

تمّام علي بركات