الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

من حلب (4)

 

د. نضال الصالح
ما إنْ توكأت ندى جسدها المنهك بفعل المخدّر، وكانت كفّ فايز هُرعت إلى كفّها لتساعدها في النهوض أيضاً، حتى أحسّت بزلزلة ترعد كفّها، بل جسدها كلّه، وبأنّ ثمّة خفقاً باهظاً يحمحم قلبها به، خفقاً لم تشعر بنصفه وهي تستسلم ليدي الطبيب خلال إجرائه العملية لرأسها، ولم تكد تنهض، وثلاثة أيد تساعدها على ذلك، حتى كانت كفّ فايز تنزلق من ساعدها إلى خصرها، وحتى اشتدّ أوار الزلزلة في جسدها، وصخب خدّاها بحمرة باهرة على الرغم من الشتاء الذي كان غزاهما، كما وجهها كله، خلال العملية، وحتى تمنت على أمّها أن تعيدها إلى السرير لعلّها تخفي ذلك البريق الذي صخب في وجهها على حين غفلة من قلبها الذي لم يكن عرف من قبل أيّ معنى آخر للخفق غير ما يعنيه إشارة إلى الحياة.
الحياة فحسب، هذا ما كانت ندى تشعر به قبل ذلك اليوم، أمّا ذلك اليوم، بل تلك اللحظة، فقد صار لخفق القلب معنى مختلف، معنى أنها ليست ندى التي عرفت فيما مضى من العمر، مكتفية من الحياة بما يعنيها متفوقة في دراستها حتى حصولها على الشهادة الجامعية، ومخلصة في عملها منذ تمّ قبولها مدرّسة في مسابقة التربية، ولا صديقة ولا صديق لها سوى الكتاب الذي كانت تمضي معظم وقتها معه، بل الذي لم يكن يفارقها بينما أسرتها مشغولة بالأحاديث أو متابعة المسلسلات.
ذلك اليوم، بل تلك اللحظة، وعلى نحو أدقّ ما قبلها، أي عندما كانت عينا ندى تلتقيان وعيني فايز، كانت تشعر بأن ثمة شيئاً يجتاح جسدها كلّه، لا قلبها وحده، شيئاً يشبه حكاية، بل غير حكاية، كانت قرأتها في غير كتاب. وكلّ لقاء بين عينيها وعينيه كان يلحّ على ذاكرتها قول الشاعر: “وتعطّلت لغةُ الكلام..”، وما كانت قرأت في كتاب ابن حزم “طوق الحمامة” في “باب الإشارة بالعين”، أي قوله: “واعلمْ أنّ العين تنوب عن الرسل، ويُدرَك بها المراد. والحواس الأربع أبوابٌ إلى القلب ومنافذُ نحو النفس، والعينُ أبلغُها وأصحها دلالة وأوعاها عملاً وهي رائد النفس الصادق ودليلها الهادي ومرآتها المجلوّة التي بها تقف على الحقائق وتميز الصفات وتفهم المحسوسات”.
أصرّ فايز على إيصال الأسرة إلى البيت، وأقسم: “وحياة الحجة”، وكان يقصد أمّه التي لم يكن رآها منذ سنتين بتمامهما بسبب اشتداد المواجهات مع المسلّحين في القرى المتاخمة لبلدته. أقسم أنّه سيكمل واجبه الذي بدأه بنقل ندى إلى المشفى، وقال وهو يبتسم: “هذا عمل قتالي في مواجهة مَن يشاؤون لنا الموت أيضاً”، ولم يكد يكمل، حتى بزغت شمس ضاحكة في عيني ندى، وقالت: “ونحن نحبّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً”، فتابع فايز بإيماءة ذات معنى من عينيه: “محمود درويش”، فأكملت ندى: “ونحن ندفع ثمن موقفنا من قضية وطنه فلسطين”، وبإيماءة من رأسه هذه المرة قال فايز: “موقف سورية الذي لا يتغير”.
قالت أم ندى: “ما شاء الله عليكما، أهذا وقته؟”، وأطلقت ذراعها حول خصر ندى لتساعدها على المشي، لكنّ ندى بدلاً من أن تستسلم لذراع أمّها وجدت نفسها……. (يتبع).