معركة ترامب مع أوروبا
إن تبني واشنطن “نظاماً ليبرالياً جديداً” كمبرر لانسحابها من العديد من المنظمات الدولية، وانتهاك القواعد الدولية يشكل سياسة خارجية جديدة “خاطئة بشكل واضح”، وهي سياسة لن تحظى بدعم أي دولة كبرى، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، ومعظمهم أعضاء في الاتحاد الأوروبي. لقد شكّك وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بقمة بروكسل الأوروبية التي تضع مصالح الاتحاد فوق مصالح الدول الأوروبية ومواطنيها.
لقد انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، ومن الاتفاق النووي الإيراني الذي ساهم فيه الاتحاد الأوروبي بشكل كبير، وهدّدت بالتخلي عن معاهدة إزالة الصواريخ النووية متوسّطة المدى مع روسيا. ليس هذا فحسب ، بل إنها تخطط الآن لفرض الرسوم على السيارات الأوروبية، وبما أن واشنطن تحمل هذه الشرور تجاه أوروبا، فمن المستحيل على الأوروبيين تغيير وجهات نظرهم حول الولايات المتحدة من خلال الاستماع إلى بعض كلمات بومبيو العاطفية.
لكن واشنطن لا تستطيع تحمّل هذه المتطلبات الكبيرة، إذ تحتاج إلى الكثير من الاستثمارات المالية بالإضافة إلى الدعم القوي من عدد من الحلفاء لبناء “نظام ليبرالي جديد”، وعدم ظهور قوى كبرى أخرى على الأقل.
إن الاستراتيجية الحالية للولايات المتحدة تقلل الاستثمار المالي في السلع الدولية بدلاً من زيادته، وأظهرت واشنطن رغبة قوية في الاستيلاء على المزيد من السوق الدولية من خلال وسائل مختلفة. وأصبحت استراتيجية “أمريكا أولاً” الموضوع الحقيقي لسياسة واشنطن الخارجية، وقد أدت أنانية الولايات المتحدة هذه إلى عزل غير مسبوق لحلفائها، ما أدى إلى جعل العلاقة بين جانبي الأطلسي أكثر توتراً.
سيكون من الصعب جداً على واشنطن بناء نظام دولي جديد يضر بالصين وروسيا وإيران، وما يحاول الأمريكيون القيام به هو ما قاله بومبيو تماماً: “حتى أصدقاؤنا الأوروبيون يقولون أحياناً”:إننا لا نتصرف لمصلحة العالم”. يمكن للجميع أن يقول ما تسعى الولايات المتحدة إلى بنائه هو نظام عالمي يعمل وفق المصالح الأمريكية.
في الواقع، وأن الولايات المتحدّة غدت أكبر مدمّر للنظام العالمي في السنوات الأخيرة. وباعتبارها أحد أهم الحلفاء، عانت أوروبا أكثر بسبب التصرفات الأمريكية، وما قاله بومبيو في بروكسل قد لا يكون بالضرورة الإعلان عن بناء نظام جديد، ولكنه على الأرجح محاولة لجذب أوروبا، وتخفيف العلاقات المتوترة مع الدول الأوروبية. لقد حاول بومبيو دون جدوى التأكيد على مدى اختلاف العلاقات بين ضفتي الأطلسي عن علاقات الولايات المتحدة مع الصين وروسيا وإيران.
وقد لا تعتقد واشنطن حقاً أن بناء نظام عالمي جديد ضد الصين وروسيا وإيران هو أمر واقعي، ولكن ما هو قائم الآن ناتج عن الاندفاع دون أي تفكير جاد، فالإدارة الأمريكية الحالية تعتقد فقط أن القوة هي حق وتضغط على العالم بقدر ما تستطيع، أما الاختلافات فتظهر غالباً في تصريحات الأعضاء المهمين في الإدارة الأمريكية، وإذا كانت واشنطن تسير حقاً في المسار الذي وصفه بومبيو، فإن رحلتها ستكون متعبة، وستنتهي على نحو سيئ، والخلاصة فلا بد من التخلي عن هذا المسار عاجلاً أم آجلاً، ومن المؤكد أن أوروبا لا تستمع، ولا تتبع الولايات المتحدة هذه المرة.
عناية ناصر