“طقوس الأبيض” وثنائية الموت والحياة
شاركت فرقة قومي اللاذقية في مهرجان حمص المسرحي الذي اختتمت فعالياته مؤخراً بعرض “طقوس الأبيض” تأليف الكاتب العراقي محمود أبو العباس، وإخراج هاشم غزال.
يتناول العرض ثنائية الموت والولادة، ورمزية اللون الأبيض الذي هو لون أكفان الموتى التقليدي، كما هو لون قطنيات ديارة الأطفال حديثي الولادة. أي انه دلالة تعبيرية عن نقيضين معا تحيلنا إلى استمرارية الحياة رغم الحرب والهلاك الذي يحل بالبشر.
هذه الثنائية يعبر عنها من خلال حكاية حفار قبور وزوجته القابلة التي تساعد حوامل البلدة على ولادة حيوات جديدة. شخصيتان تعيشان صراعا داخليا بين الشيء ونقيضه، امرأة تساعد في ولادة حياة وتعجز عن إعانة نفسها، فأطفالها يموتون عند الولادة، تسعة أجنة دفنهم زوجها قبل أن يروا النور. ورجل يدفن حيوات ويحلم بأمل جديد يأتي مع المطر الذي يستمر في الهطول كل عام. إنها جدلية الصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان مع ذاته، يلخصها العرض في حالات ثلاث إلى جانب حالة الحفار وزوجته القابلة.
الحالة الأولى امرأة حامل تستعجل ولادة طفلها قبل شهرين من موعدها لأنها لاتضمن العيش لشهرين آخرين، وتتوق لرؤية وليدها بين يديها قبل أن يدركها الموت، فتلد وتخرج مع زوجها حاملين مولودهما بفرح. وامرأة أخرى لديها انتفاخ في أحشائها يشك زوجها العقيم بوجود حمل وخيانة، وعندما تبدد القابلة شكوكه يسعى للاعتذار من زوجته التي ترفض الحياة مع الشك والصراع فتغادر دون أن تلتفت إليه. والامرأة ثالثة تتوق للتخلص من حملها لأنه يكبل حريتها ويعيق رغبتها بالهجرة والسفر والبحث عن ملذات الذات فتموت أثناء الولادة، ويرفض زوجها الذي ذاق من استهتارها الأمرين استلام جثتها، والمولود الجديد، أو حمل أي شيء يذكره بها حتى ولو كان طفلا من صلبه، فيرحل ليترك وليده لدى قابلة وحفار يجدان فيه الضوء المنبعث من بين الأموات.
مقولات فلسفية خلاقة يطرحها العرض عن كيفية انبعاث الحياة من الموت سعى المخرج لطرحها مستعينا بمفردات حسية وحركية معبرة، حاول من خلالها بناء المشاهد المنفصلة شكلا ومتصلة مضمونا وربط كافة خيوط العرض، فقد اعتمد إلى جانب جسد الممثل باعتباره لغة مسرحية وطاقة تعبيرية مؤثرة في صياغة المشهد، على المكان كديكور له دلالته المساعدة على صياغة الفكرة والإدراك، فالمكان هنا هو مقبرة تستقبل كل حين جنائز تودع الحياة، وفي هذا المكان مسكن الزوجين تستخدم القابلة سريرا مغطى بالأبيض لتوليد الحوامل عليه، إلى جانب تابوت دفن الموتى الذي يستخدمه الزوج في دفن حياة. جعل المخرج الرجل ينام في تابوته والمرأة على سريرها أي كل واحد يسكن في عمله، مع أن الشخصيتين تحملان نقيض ماتفعلان لتعميق حدة الصراع الذاتي، الرجل متفائل بالحياة ويغني للمطر، في توظيف لأنشودة السياب الشهيرة ويؤمن بأن الحب يصنع المعجزات ،والمرأة حزينة ويائسة بلا أمل، بعد فقدان ثمرة حياتها، ويجد في توظيف الأزياء برمزية اللون فيها عنصرا مكملا ضروريا لاستكمال الفكرة، فالنساء الحوامل الثلاث والقابلة ارتدين اللون الأسود ليقول لنا من الحزن يولد الفرح. وأزياء الأزواج ارتبطت بحالة كل واحد منهم، زوج شكاك وانفعالي متأنق يرتدي قميصا وربطة عنق، ورجل مهزوز يأتي بلباسه الداخلي.
رغم هذا الحرص على تكامل العناصر المسرحية في “طقوس الأبيض” إلا انه افتقر إلى الإيقاع الصوتي للمؤثرات المناسبة التي تعمق الحس الدرامي لدى كل من الممثل والمتلقي على السواء، فالحديث المتكرر عن المطر لم يرافقه أي مؤثر صوتي للمطر فجاء نداء الحفار وتغنيه بالمطر منفصلا عن الهالة الانفعالية المرافقة، والاستعراضات الحركية للممثلين لم تعزز بالموسيقى المصاحبة والمعبرة عن حالة الانفعال ولهذا كان مطلوبا من الممثلين مضاعفة الجهد لتعويض غياب عنصر موسيقي ومساعد ضروري لبناء مشهد متكامل العناصر.
لم يتجاوز العرض الساعة الزمنية استطاع ممثلون هواة بث الروح في نص فلسفي ببراعة ومقدرة احترافية تجاوزت عثرات ونواقص الرؤية الإخراجية والتوظيف السينوغرافي ليحملوا عرضا يستحق الوقوف والتصفيق بحرارة.
الممثلون هم: إسماعيل خلف، رغداء جديد، خدام وغزوان إبراهيم، محمد يونس أحمد، وسام مهنا، مصطفى جانودي، ميس زريقة، رهام التزة، نبال شريقة، هبة شاهين، وفاء غزال، عمار أشقر، نور الصباح غزال، كيتي عمار.
آصف إبراهيم