المطر الصّبيب..!
حسن حميد
بلى، ثمة أسماء أدبية وفنية لا تتوارى أهميتها، ولا تغيب هيبتها، ولا يطالها الفقد.. لأنها بنت قرىً من الأدب والفكر والفن آيتها الجمال والرفعة والحذق، ما زالت الأيام، وعلى الرغم من تدافعها، تنشد ما فيها من نبل وأسرار فتواقفها وتنظر إلى جوانياتها مثلما ينظر العارفون بالأحجار الكريمة إلى ما وقع بين أيديهم من جواهر ثمينة. من تلك الأسماء الأدبية، وهي كثيرة، الأديب جبرا إبراهيم جبرا المولود سنة 1920 في مدينة بيت لحم الذي قرأ وكتب وألّف وأبدع بلغات ثلاث هي العربية والإنكليزية والسريانية، والذي وافى أسرار هذه اللغات في مدوناتها الثقيلة، وأعطاها أسرار موهبته الثقيلة أيضاً.
جبرا إبراهيم جبرا، هو ثالث إخوته في أسرة فقيرة، عاشت في بيت لحم، وعرفت معاني المحبة من تلاقي الناس ووفودهم إلى المدينة لأخذ بركة المكان والمعنى لأن البلدة هي بلدة سيدنا المسيح عليه السلام، وهي البلدة المفتوحة على جميع الألسن واللغات لهذا كانت بذرة عشق اللغات مولودةً مع جبرا إبراهيم جبرا، واسمه هذا آرامي ومعناه القوة والشدة، عرف في نفسه العطش للعلوم والمعرفة واللغات فمضى إلى المدارس الصغيرة والكبيرة حتى غَنم من العلوم ما جعله يذهب إلى القدس ليدرس في المدرسة الرشيدية، ثم ليلتحق بالكلية العربية، وقد ناف على غيره من مجايليه في حذق العلوم واكتنازها، وفي القدس تعرف إلى أهل العلم والأدب والشهرة أمثال: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي، وعبد الرحيم محمود، ومحمد خورشيد العدناني، وأصاب شهرة ومكانة بينهم على الرغم من أنه لم يفصح عن موهبته في الإبداع بعد، فقد أحبه الجميع لاجتهاده، وقدراته في امتلاك اللغات، وبسبب هذه المودة أَطلَع بعضاً من هؤلاء الأدباء والشعراء وأساتذة اللغات على روايته الأولى/صراخ في ليل طويل/ التي كتبها باللغة الإنكليزية سنة 1946، والتي قُرِّظت كثيراً، فنقلها من خط يده إلى الطباعة على الآلة الكاتبة، ثم وحين مضى إلى لندن ليدرس الماجستير في جامعة كامبردج أخذها معه ليقول لأهل اللغة الإنكليزية جئتكم طالباً وأديباً في آن؛ هذه الرواية التي ستعود إلى اللغة العربية في عام 1955. بعد الماجستير في الآداب الإنكليزية مضى إلى جامعة هارفرد الأمريكية لينال شهادة الدكتوراه وقد حازها عام 1948، ومن أمريكا إلى العراق، إلى جامعة بغداد ليدرّس آداب الإنكليزية.
في العراق تبدت الروح المفطورة على الإبداع التي حملها جبرا بين جوانحه، فظهرت قصصه، ورواياته، وأشعاره، ونقوده الأدبية والفنية، وترجماته، وشواغله بالكتابة للسينما، فكان بمنزلة من يؤسس ريادةً لهذه الفنون جميعاً في العراق، وراحت العيون والذهون تترقب كل ما تقذف به موهبته إلى المطابع، حتى غدت ثقافة العراق، وهي على ما هي عليه من جمال وحضور ومكانة، تدور حول جبرا إبراهيم حبرا، وباتت كلمات قليلة أو أسطر قليلة يقولها أو يكتبها جبرا بحق تجربة أدبية أو شعرية أو فنية أشبه بشهادة عليا ممنوحة منه، أو أشبه بترسيم أدبي كهنوتي له مهابته ووجاهته الباديتان.
كل ما نسب إلى جبرا إبراهيم جبرا من أدب وثقافة وفكر وفن وترجمة ونقد ودراسة كان ولا يزال شارقاً بالجمال الفيّاض، ذلك لأن الروح المبدعة أحاطت بكل ما كَتَبَ وأعطى، ولهذا كان بحق رجل التنوير الثقافي في العراق والبلاد العربية، وكان واحداً من رجال النهضة الثقافية العربية التي عرفتها دولة الاستقلال العربية.
أجل، بالموهبة، والمُكنة، والشغف، والشوق، ومناددة الجمال.. يصير الجمال مطراً صبيباً.. كالمطر الصبيب الذي يُنسب لـ جبرا إبراهيم جبرا.
Hasanhamid55@yahoo.com