في الشعريّة
يطمح الناقد السّوري المغترب “كمال أبو ديب” من خلال دراسته الجادّة التي أنجزها عام 1984 لمفهوم الشّعريّة، إلى تأسيس رؤية شخصيّة ترتقي إلى مصاف النّظريّة المتناسقة، التي تتجاوز الصّياغات المطروحة في هذا المجال حتى الآن، بعد أن وصل التّركيز على النصّ الشّعري واللغة الشعرية درجة باهرة خلال العقدين الماضيين كما يقول. نظرية تبحث لنفسها عن مكانة لائقة، ضمن سياق الدراسات المعاصرة في العالم. إنّها محاولة لاكتناه طبيعة الشّعر، بدءاً من الهاجس الإيقاعي الذي يصف الكثيرون تشكّله الهلامي قبل انبثاقه لغة صوتيّة في جسد القصيدة، وانتهاءً بالرؤيا التي ينبع منها ويفيض بها، وتنعكس في مواقف الإنسان من العالم والمجتمع والطبيعة والماوراء.
كان “الجرجاني” في القرن الخامس الهجري آخر باحث عربي عمل على تطوير العمليّة التّحليليّة للوصول بها إلى أقصى درجات الدقّة والصرامة، والابتعاد عن التّعميمات النظريّة الكسلى ذات المنابع التقليديّة أو العقائديّة الصّرف، بمحاولته إقامة نظريّة متكاملة لفهم الظاهرة الأدبيّة عن طريق تحليل تجسّدها النّصّي، التي استفاد منها الكثيرون في محاولاتهم لإحياء الدراسات البلاغيّة والنقديّة، كـ”محمد عبده، وصاحب هذا الكتاب ومحمد مندور وغيرهم”. لكنّ الكتابات النقديّة المعاصرة بقيتْ تفتقر لهذا النقد التحليلي ، وتعوم في مياه الشخصانيّة والمذهبيّة والانطباعيّة. ّ ومن هنا تأتي أهميّة التّأسيس لنظريّة ضدّيّة للثقافة العربيّة المعاصرة، لا تستسلم لغوغائيّة الشّعارات والمسلّمات العقائديّة. كضرورة لا يقلّ غيابها خطراً عن الصّراع الوجودي مع إسرائيل .
لقد حدّد الكاتب مفهومه للشعريّة في إطار ما أسماه ” الفجوة : مسافة التّوتّر” منقّباً عنها في تجلّياتها النصّيّة الشعريّة، لا ليجعلها قضيّة شكليّة ، منسلخة عن المصير الإنساني ، و بطولة الإنسان بمواجهة أزماته وصراعاته وأسئلته المعذبة الممزّقة التي يواجه بها وجوده المغلق. بل ليجعلها في قلب كلّ هذه الهواجس . مؤكداً على أهميّة الخروج من تأطير الظاهرة الشعريّة بالمفهوم القديم على أساس الوزن أو القافية ، التي قال بها ” قدامة بن جعفر” معرّفاً الشعر بأنّه : ” كلام موزون مقفّى ويدلّ على معنى ” . أو حصرها بالإيقاع ، أو الصورة، أو الرؤيا، أو الانفعال ، أو الموقف الفكري أو العقائدي..إلخ . كلّ على حده. إذْ لا يمكن لأيّ عنصر من هذه العناصر منفرداً أن يشكّل مفهوماً للشّعريّة . إلّا باندراجه ضمن شبكة من العلاقات المتشكّلة في بنية كليّة . وبهذا المعنى فالشعريّة خصّيصة علائقيّة ، تنمو في تربة مكوّنات أوّلية، لو وقعت في سياق آخر لما وسمتْ بالشعريّة . فالسياق الذي تنشأ فيه هذه المكوّنات ، بتواشجٍ مع مكوّنات أخرى لها السمة الأساسية ذاتها ، هو من يخلق الفاعليّة الشعرية . وبهذا التصوّر تصبح الشعرية انعكاساً لكيميائيّة وفيزيائيّة اللغة . هذه اللغة المتجسّدة في ” بنية النص ” على الصّفحة أو في الفضاء الصّوتي الدلالي ، ضمن نظام إشاراتي يشكّل جسدها وكينونتها الناضجة وشرط وجودها أيضاً .وهذا ما يمكن إخضاعه للتّحليل البنيوي السيميائي القائم على العلائقيّة والكليّة والتحوّل . بدل البحث في اكتناه البعد الخفيّ للشعرية، في خفايا الطقوس والأسطورة والموسيقى ، أو بعقد القمع والجنسية واللّاوعي الجماعي ، أو ربطها بالحسّ الديني كما يقول ” نيتشه ” بأنّ كلّ شعر ذو منشأ ديني ” .
وتحاذر الدراسة الوقوع في مطبّ الانزلاق إلى موقع خطر في دراسة الشعريّة من منظور الاختلاف . فهي لا تريد تحديدها في إطار الانحراف من لغة عادية إلى لغة مختلفة مغايرة، لها قواعد نحوها الخاصّة . وبهذا المعنى تلتقي مع تصوّرات ” تودوروف ” في نقده الجذري لعمل ” جان كوهين ” ” بنية العمل الشعري ” . حيث ينظر ” كوهين ” إلى الشعر” من وجهة نظر شيء آخر، لا في ذاته .. وأنّه يميل إلى أن يأخذ الشعر بما يختلف عن النثر لا من حيث هو ظاهرة متكاملة ” .
الشعريّة إذن عند ” أبي ديب ” ، خاصيّة نصيّة ، لا ميتافيزيقيّة تبحث في طبيعة العلاقات المتنامية بين المكونات النصيّة على الأصعدة الدلالية والتركيبيّة والصوتية والإيقاعيّة . وهي وظيفة من وظائف ” الفجوة : مسافة التوتر” التي تتجسّد كميزة أساسيّة في بنية النصّ اللغويّة، كما التجربة الإنسانيّة عموماً .
ومن هنا تكون الشعريّة جوهريّاً لا خاصيّة تجانس وانسجام وتشابه وتقارب ، بل عكس ذلك كلّه . خاصيّة لا تجانس ولا انسجام ولا تشابه ولا تقارب ، لأن الأطراف السابقة تعني الحركة ضمن العادي المتجانس المألوف والنّثري .
وتطبيقاً لطروحات الكاتب في مفهوم ” الفجوة :مسافة التوتر” نعرض تحليله لبعض مقاطع قصيدة أدونيس ” إلى الغريبة ” : ( أسألُ ماذا أكتبُ لزوجتي الغريبة ـ العاشقة الصغيرة) هذا المقطع لا يملك من الشعريّة سوى عذوبة الإيقاع ، لكن القصيدة سرعان ما تنتقل إلى محور آخر لتخلق فجوتها ومسافة توترها ، عبر منح المقطع هويّة جديدة ضمن البنية الكليّة للقصيدة : ( وورقي ، إذا حضرتْ، يهربُ، وريشتي في طرف الجزيرة حمامة تلتهبُ ) . بزوغ الفجوة يتجلّى في ( وورقي ، إذا حضرتْ يهربُ ) فهي لا تنبع من الاستعارة، ولا الصّورة الشعريّة. بل إنّ المسألة تتعلّق بثلاثة مستويات هي : ( ورقي يهرب) وينتمي إلى الصورة الشعرية حيث يبدو واضحاً التّشخيص الواضح للورق. و ( إذا حضرتْ يهرب ) وهو مستوى لا علاقة له بالصورة الشعريّة، بل ينشأ من تداخل صورتيّ الحضور والهرب. والمستوى الثالث يظهر في العلاقة بين اللغة العادية في البيتين الأول والثاني وبيمن اللغة الصوريّة في البيتين الجديدين : ( أسألُ ماذا أكتبُ ؟ …. غريبة أجفانُها سلالمٌ وجُدُرُ، غريبة لأنّها تحبّ غير نفسها ، لأنّها تحيا لجارٍ بائسٍ، لطفلةٍ شريدة ، لأنّها ، الأعمى تقود خطوه، تفرشُ عينيها له.. ) . هكذا تنتقل القصيدة فجأة بعد انسرابها في لغة متجانسة عاديّة إلى حدٍّ يهدّد بفقد ها الانتماء إلى الشعريّة. إلّا عبر الإيقاع ، خالقة فجوتها ومسافة توتّرها الحادّة بمنحيين : التّغيير في التّركيب النّظمي ( لأنّها ، الأعمى ). التّغيير في الصورة الشعريّة التي تخلق علاقة توتّر بين مجالين : متجانس ( تقود خطوهُ ). ولا متجانس ( تفرش عينيها له ) فثمة عالم متغاير بينهما ، وهو انتقال، بين اللاّشعري والشعري. بين العادي والخارق : ( غريبة لأنّها تبدل كلّ مقصلة بسنبلة ) حيث تتّضح مسافة التوتّر والفجوة في الدلالات العميقة على الحب والعطاء المتفجرين من إبدال كلّ ” مقصلة بسنبلة “.
و هاهو مثال آخر على الفجوة ومسافة التوتّر المتولّدين من ” الإقحام ” الذي يولّد الشعرية عبر وضع مكونات وجوديّة لا متجانسة في بنية لغويّة متجانسة . يقول البياتي : ( الشمسُ والحُمرُ الهزيلة والذبابُ وحذاءُ جنديٍّ قديم ). فمثلاً لو كانت : ( البغلُ والحُمُرُ الهزيلة والذبابُ) لكانت حالة وصفية متجانسة ، تختفي معها الفجوة ومسافة التوتر الحاصلة من إقحام ” الشمس ” على السّياق. وكذلك لو استبدلنا مفردة ” حذاء” بـ ” صراخ” لانعدمت الفجوة لنفس الأسباب السابقة . وهنا يوضّح الكاتب منعاً لالتباس المعنى على القارئ قائلاً : لقد نفى النقد البنيوي ، منذ الجرجاني وحتى الآن ، أن تكون اللّفظة المفردة شعريّة أو لا شعريّة. فكلمة ” شيء ” قد تعتبر لا شعريّة في مكانٍ وفي سياقٍ آخر تفيض بالشعريّة الغنيّة . ولذلك يجب ألّا يُفهم من الجملة السابقة بأنّني أنسب الشعريّة إلى العنصر المفرد .
أوس أحمد أسعد