لتحقيق توازنها المعادلة الزراعية.. توفير مستلزمات إنتاج وتأمين عملية تسويق ناجحة
ألحقت المتغيرات المناخية منذ بداية الألفية الثانية وحتى الآن أضراراً بالغة لجهة النقص الحاد في المنتج الزراعي الغذائي، مترافقاً بنمو سكاني متزايد اختل فيه التوازن بين الحاجة الفعلية للاستهلاك، وما هو متاح من هذا الغذاء، فمن يقرأ جيداً وبإمعان الإحصائيات، والأرقام الإنتاجية الزراعية الحقيقية، يدرك جيداً بأن كل الاهتمام للمرحلة القادمة يجب أن ينصب نحو زيادة الغلة الإنتاجية الزراعية الغذائية والصناعية بشقيها النباتي والحيواني.
ولمن يشكك بصحة وصوابية ما نقول فليعد إلى المركزي للإحصاء المخول الوحيد بإعطاء الأرقام الإحصائية، ويدقق ما كنا ننتجه من غلة زراعية وفيرة، بل فائض إنتاج، وبين ما ننتجه منذ سنوات، ليدرك جيداً الفارق الكبير، وكيف أهمل القطاع الزراعي، أو على أقل تقدير لم يلق الدعم والاهتمام المطلوبين، فمن خمسة ملايين طن من القمح قبل الأزمة ونصفها مع بداية الأزمة، إلى أقل من 275 ألف طن هذا العام.
قد تكون الأزمة سبباً جوهرياً، لكنها مقنعة في بعض المحافظات، وغير مقنعة في بعضها الآخر، بل كثيراً ما تقول وزارة الزراعة: إن زيادة كبيرة قد طرأت على الخطة الزراعية لجهة محصول القمح، وبالتالي من المفترض زيادة الغلة وفقاً لعملية حسابية، ولعل من كان يتابع تصريحات المسؤولين كان يشتم منها بأن الرغبة في استيراد القمح خير من زراعته، حيث يباع سعر الكيلوغرام مستورداً بمئة ليرة، في حين تدفع الحكومة 175 ليرة للمزارعين لسعر الكيلوغرام الواحد، رغم أن عملية الاستيراد هي ارتهان للخارج، بينما الإنتاج المحلي يشكّل حالة من الاستقرار والطمأنينة للمزارعين، ويسهم في تشغيل حوالي 26 بالمئة من السكان لدينا.
والآن كل هذه الظروف آخذة في التغيير، فالموارد الطبيعية الزراعية المطلوبة للمزيد من الاستثمار لم تعد متاحة، بل إن عدد المستثمرين فيها بالنسبة للفرد آخذ في التآكل نتيجة لاستمرار الزيادة السكانية، ومستقبل إمدادات الغذاء، وارتفاع تكاليف الإنتاج، فكيف لنا أن نعيد للقطاع الزراعي مجده الذي فقده، وفقد العاملون فيه الرغبة للمضي به قدماً، والذي مازال متماسكاً، ولدينا الاكتفاء الذاتي منه، لكن ارتفاع مستلزمات الإنتاج وعدم تصريف الفائض بات يهدد بتراجع هذا الإنتاج، فالكل يتحدث عن هذا القطاع، وهو الحاضر دائماً على طاولات المعنيين، إذاً لماذا لا نرى نتائج ذلك على أرض الواقع؟!.
أمننا الغذائي بأيدينا
الخبير الزراعي المهندس غازي العزي قال: إن الأمن الغذائي لأي وطن هو قضية محورية وجوهرية لا يمكن تركها للظروف المتغيرة التي تشي وقائعها، كما نلاحظ، بأنها غير مطمئنة، وغير آمنة، لقد طالبنا عدة مرات وفي كل الاجتماعات الزراعية وغير الزراعية بضرورة التركيز على القطاع الزراعي، فهو العربة الأولى في قطار الاقتصاد المحلي لدينا، وهذا لا ينتعش إلا بعدة شروط، تأتي في مقدمتها إعادة النظر بأسعار التكاليف بشكل دائم، وتأمين المستلزمات قبل فوات الأوان، وترك هامش ربح مغر للمزارعين، وهذا لا يتحقق إلا بالتقصي الحقيقي والفعلي مع المزارعين والعاملين في الحقول الإنتاجية الزراعية، وليس المكتبية.
فعندما ينشغل الناس بقوت يومهم يعتبر ذلك حالة من حالات القلق، وتبرز هنا المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بصورة أكثر حدة، ومن البديهي أن تحقيق الأمن الغذائي يستلزم بالضرورة تنمية زراعية شاملة ومستدامة، والارتقاء بالقطاع الزراعي كونه مصدراً للرزق، ولم يعد هناك طعام مجاني ورخيص لدى كل دول العالم.
الأولوية الزراعية
المهندس مشهور أحمد، خبير صناعات غذائية، قال: ما نلاحظه منذ سنوات أن القطاع الزراعي لم يعد هو الأولوية إلا بالأحاديث والتصريحات، ولو كان الأمر غير ذلك لكان الوضع مختلفاً، من هنا نرى ضرورة التركيز وبفكر منفتح، وبمزيد من الاهتمام على جميع مناطق القطر، وخاصة المهمل منها، فقد تكون تحتوي على فرص للتنمية أكبر مما هو ظاهر شريطة دراستها بشكل علمي بعيداً عن الفكر التقليدي السائد.
البحوث الحاضرة الغائبة
أحد المهندسين الذين عملوا طويلاً في مجال البحوث العلمية الزراعية قال: لقد جرت العادة على احتساب مدى التقدم في البحوث الزراعية بحساب مقدار الزيادة في إنتاجية الدونم أو الفدان، بمعنى أوضح أي الإنتاج لوحدة المساحة، أو مدى خفض تكاليف الإنتاج، والمعياران صحيحان.
وأضاف متسائلاً: أين البحوث العلمية الزراعية من كل ما يلحق بزراعتنا من تدني الإنتاجية والأصناف المقاومة للأمراض، فلا يتناسب ما يقدم للبحث العلمي الزراعي مع ما هو منتج على الأرض في الحقل؟! وساق مثالاً: مازال إنتاج الدونم الواحد من القمح يتراوح بين الـ 250-300 كغ، لذلك نتساءل مجدداً، ومازال الكلام للمهندس: هل حقق البحث العلمي الزراعي لدينا أياً من هذين المعيارين؟.. مشيراً إلى أنه لا يكفي تخصيص الاعتمادات اللازمة لهذه البحوث، إنما الأهم من ذلك هو رغبة القائمين على هذه البحوث في العمل، وتطويره بما يتناسب والدعم المقدم له.
مازال القطاع الزراعي بخير
المهندس رفيق عاقل، عضو المكتب التنفيذي لقطاع الزراعة في محافظة حماة، قال: رغم كل ما لحق بالقطاع الزراعي من خراب، وإيقاف مشروع الري الحديث وتخريبه، ورغم ارتفاع تكاليف الإنتاج، وغياب الأسمدة لهذا العام، والمحروقات، أستطيع أن أقول: إن القطاع الزراعي مازال مميزاً لجهة الإنتاجية، ويكفي الاطلاع على حالة الأسواق.
وأضاف عاقل: صحيح أن المزارعين لم يحققوا ما يصبون إليه من هامش الربح، بل لحقت بهم الخسائر الكبيرة بسبب السياسة السعرية غير المناسبة، مثال على ذلك تراجع زراعة القمح، والشوندر، والتوجه نحو زراعات أخرى أقل تكلفة، وأكثر ريعية، في حين قال فراس منصور، مزارع ومربي ثروة حيوانية: لم تعد تلك البهجة للقطاع الزراعي، كنا نغرق المستودعات بمخزون القمح، والشعير، والذرة الصفراء، أين هذه الإنتاجية الآن؟.. مشيراً إلى أنه كما تأذى القطاع الزراعي من الأزمة، تراجع الاهتمام بالثروة الحيوانية بشكل واضح بسبب ارتفاع أسعار المادة العلفية، ولم يقدم لهذا القطاع ما يستحقه من اهتمام، ثم إننا نسمع دائماً بأن الحكومة مهتمة بالقطاع الزراعي، فكيف لنا أن نرى ذلك إن لم يكن على أرض الواقع؟.
أسباب التراجع
رئيس قسم الإنتاج النباتي في هيئة تطوير الغاب، المهندس وفيق زروف قال: لتراجع القطاع الزراعي من وجهة نظره عدة أسباب، يأتي في مقدمتها ارتفاع تكاليف الإنتاج، ودون أخذ هذه المسألة كأولوية من قبل الحكومة طيلة سنوات الأزمة، الآن أدركت بأن الفجوة أصبحت كبيرة من هذه التكاليف، والأسعار الحكومية، ولذلك تم تكليف وزارتي الزراعة، والتجارة الداخلية وحماية المستهلك، واتحاد الفلاحين، بدراسة الأسعار، ونأمل أن تستشير هذه الجهات العاملين في القطاع الزراعي، وتحديداً بالحقل، فهم الأكثر دراية، فعلى سبيل المثال يجب أن يحدد سعر طن الشوندر بأربعين ألفاً في العام القادم وإلا سيكون مصير المحصول علفاً للثروة الحيوانية، كما السنوات الخمس الماضية!.
وأضاف زروف: وكذلك أسعار محصول القمح، في الوقت الذي يجب أن يكون التركيز عليه أكثر من كل المحاصيل الأخرى، فهو تحصيننا لأمننا الغذائي، إذ ينصب اهتمام كل العالم على الجانب الغذائي بحثاً عن الاكتفاء الذاتي.
التنمية الزراعية
إن أمننا الغذائي مازال محصناً، ولكننا نريد زيادة غلته، ووفرة اقتصادنا، رغم كل تراجع قطاعنا الزراعي، في الوقت الذي مازال البحث العلمي الزراعي على الرف، فهل يمكن تحقيق التنمية الزراعية، والارتقاء بالإنتاجية والإنتاج الزراعي الكلي للوفاء باحتياجات السكان، وتحسين معيشة العاملين في هذا القطاع، وإيلاؤه كل العناية الفائقة؟.. فالخسائر المتلاحقة بالمزارعين، وارتفاع أسعار التكلفة من شأنهما أن يقللا من عدد العاملين بالزراعة، في الوقت الذي نريد العكس تماماً فإنتاج القمح محلياً خير من استيراده مهما كان فارق السعر لصالح المستورد، ونرى من الأهمية بمكان أنه يجب التحضير للموسم الزراعي القادم منذ الآن، وتوفير كل مستلزماته، ولنا بما قاله السيد الرئيس بأن المنتج الزراعي السوري هو الأفضل، ويجب إعطاؤه الأولوية في المرحلة القادمة.
محمد فرحة