كدنا نجوع..
كدنا نجوع رغم أننا طالما كنّا بلداً عصيّاً على الحصار والتجويع.. لأننا نعتدّ باقتصاد متنوّع ومتعدّد الموارد، وهذه ميزة مطلقة في اعتبارات الأمن الغذائي وركائز الاستقرار الاجتماعي..
هو المعادل التقليدي للصمود في بلد لو أغلقت عليه حدوده لما انهار، وربما هذه هي العلامة الفارقة التي ميّزتنا عن دول الاقتصادات أحادية المصدر في مضمارنا العربي، التي ترزح دوماً تحت وطأة حالة استلاب شبه مطلقة، حيث لم ينفعها نفطها ولا ثرواتها..
لقد كانت علامتنا “الذهبية” الفارقة، بكل مفرداتها، في مرمى بنك الأهداف والاستهداف عبر أدوات الحرب على سورية، لكن ثمة استهداف آخر، هو الأخطر جرت فصوله بهدوء ورويّة على مرّ سنوات ما قبل الحرب، تركّز على أهم قطاع ضامن لبقاء السوريين.. الزراعة أو قطاع “الأمن الغذائي” الذي كان سخيّاً كفاية في ذروة الهواجس العالمية من أفول ملامح زمن الغذاء الرخيص، ونذكر ذلك جيداً عندما كان الحصول على القمح السوري يتصدّر قائمة المطالب التي تحملها الوفود العربية إلى اجتماعات اللجان العليا المشتركة مع سورية.
كسرنا “خصوصية القمح” بأيدينا عندما وافقت حكومات “الحقبة الليبرالية” في بلدنا على إدخال وزراعة القمح الطري المستورد والمعدّل وراثياً بنسبة 80 بالمئة من إجمالي المساحات المزروعة، بدلاً من الأصناف القاسية التي كانت ميزة سورية مطلقة، ويدرك العارفون بالحقائق أن القمح المهجّن لا يمكن أن يكون بذاراً في نهايات المواسم بالطريقة التقليدية التي يلجأ إليها الفلاح السوري، إلّا لبضعة مواسم قليلة، لنصل اليوم إلى أزمة بذار، ونحصد نتائج كئيبة لسياسات عشوائية أوقعتنا في فخ أطبق علينا بهدوء وصمت.
رواية القمح كانت مثالاً، انسحب على تكنيك التعامل مع كامل القطاع، الذي تقهقرت مساهمته في الناتج الإجمالي من 32 % قبل العام 2006 إلى 16 % في العام 2010، وبعدها دخلنا في أتون الحرب علينا، حيث لا إحصاءات، ولا حتى زراعة يمكن الركون إليها فعلاً.
الآن نبدو جميعاً، حكومة ومنظمات، ولا سيما اتحاد الفلاحين، ومزارعون أيضاً، أمام مهمة عالية الحساسية، وهي استعادة الألق الزراعي السوري، والارتقاء بأرقام مساهمة القطاع في محصلات النمو والتنمية الحقيقيّة.
ولا بأس أن نسلك ذات الطريق الراجع من أخطاء الماضي، وهي طريق ذات معالم واضحة لا تحتاج إلى إشارات دلالة ولا اجتهادات ولا ابتكارات جديدة، لكن المهم كأولوية متقدّمة أن ننجح في جمع واستعادة أصناف القمح السوري القاسي القديمة، أي الأصناف التي كانت دارجة قبل الارتجالات “الكارثية”، فما زال الفلاحون في بعض المناطق مواظبين على زراعة هذا الصنف.. ومن المجدي متابعتهم وتشجيعهم وتجميع إنتاجهم كاملاً لدى مؤسسة إكثار البذار، وعدم السماح بدخوله في قنوات الاستهلاك، فعندما أنتجت سورية 5 ملايين طن قمح في أحد المواسم لم نكن قد ابتلينا بعد بـ “بدعة” القمح الطري والمهجّن ونتائجها المدمرة حتى للصحة، لأن هذه الأصناف مطرودة من البلدان التي عدّلت صيغتها الوراثية وعبثت بها.
على العموم نحن بلد زراعي، الزراعة حفظت ماء وجهنا، وهي من تصدّرت منتجاتها قوائم صادراتنا، كما أنها حصّنتنا من الانهيار في وجه سلسلة طويلة بدأت ولن تنتهي من المؤامرات والمكائد، ومن المقلق أن تكون “بطالة الأرض” كوسيلة إنتاج أحد أبرز عناوين أخطائنا في التعاطي مع مواردنا الطبيعية، فما ننتظره من بلدنا، وما ينتظره الآخر منا، ليس التقنيات العالية، ولا السيارات الذكية، بل هو المنتج الزراعي، وتجليات حيّة لبصمة “زُرع في سورية”.
ناظم عيد