دراساتصحيفة البعث

قراءة في واقع الأحزاب العربية.. المشهد السياسي في تونس نموذجاً

عبد الناصر بدروشي

عضو لائحة القومي العربي- تونس

هذا المقال هو قراءة في أبعاد المشهد السياسي التونسي والعربي ما بعد “الربيع العربي”، تنطلق من الراهن لتحليل وفهم أسباب الأزمة التي تعيشها التيارات القومية واليسارية على امتداد الوطن العربي، وتحاول التطرق إلى مسألة الآليات والأداء، وتطرح تصورات للخروج من التيه والضياع والعشوائية التي أصبحت السمة الأبرز للقوميين واليسار العربيين.

لا يظنن أحد أن الهدف من هذا المقال هو التهجم على الأحزاب العربية والنيل من منجزاتها ولا من رموزها، ولا نرمي البتة إلى المزايدة على أي طرف.

وإن فُهِمَ بأي شكل من الأشكال أن الغاية من وراء كتابة هذه السطور هي التخوين أو النيل من رموز العمل القومي والتنظيمات والأحزاب القومية واليسارية أو المزايدة عليها، فذلك ربما يكون بسبب قصور مني في إيضاح المبتغى.

كما نعتذر مسبقاً للقارىء الكريم أياً كانت مرجعيته التنظيمية عن صراحتنا البالغة في تشريح الواقع واعتمادنا لأسلوب نقدي صريح، إلى درجة قد تزعج البعض، وذلك كشرط أساسي للإمساك بالجذر الحقيقي للمشكلات التي يعيشها التيار القومي العربي واليسار العربي بمختلف مشاربه بدل اعتماد الطبطبة وتوزيع الورود والنفاق، فالتشريح الدقيق والعميق هو الشرط الموضوعي لحل المشكلة حلاً جذرياً.

ولأننا نحترم هذه القوى السياسية ونكنّ لقواعدها كل مشاعر الود والتقدير، سنكون صريحين حال نقدنا لأدائها، وإن لمس منا القارئ الكريم حدةً فهي من منطلق غيرتنا على واقعنا وواقع شركائنا في الوطن.

إن الدافع وراء كتابة هذا المقال هو الإسهام في وضع تصورات وأسس يمكن أن تساعد في تطوير أداء قوى المعارضة القومية واليسارية العربية عموماً، وإن اعتمدنا على المشهد التونسي كمنطلق في التحليل ليس كخصوصية إنما كعينة عربية يمكن تعميمها بدرجات متفاوتة، منذ انطلاقة ما سمي “ربيعاً عربياً” وحالتنا كأمة عربية تشهد انحداراً من السيئ نحو الأسوأ، والأوضاع في تونس لا تختلف كثيراً عنها في أغلب الأقطار العربية من حيث تفشي ظاهرة الإرهاب وشيوع الفوضى، والتراجع اللافت لحضور الدولة لتحل مكانها منظمات التمويل الأجنبي، بالإضافة إلى عجز الدولة عن وضع حد لمسلسل انتهاك السيادة الوطنية من قبل قوى الهيمنة الخارجية وأدواتها، ناهيك عن تسليم رقاب الشعب إلى مقصلة صندوق “النقد” أو النهب الدولي ليتحول إلى حاكم فعلي للبلاد يشرف على ترسيخ سياسات اقتصادية وجبائية قصمت ظهر المواطن حتى بلغ مستوى “مقدرته الشرائية” قاع الحضيض.

اللافت للانتباه في الحالة التونسية، هو أن الوضع المزري الذي وصلنا إليه اليوم ليس من إنتاج الائتلاف الحاكم الأخير وحده، بل هو نتيجة برنامج متكامل تكالبت الحكومات التي تعاقبت على حكمنا على تنفيذه، ودخلت – أي الحكومات – في منافسة محمومة شعارها الأبرز كان التفويت في مؤسسات الدولة والقطاع العمومي والثروات المنجمية والطاقة لمصلحة المستثمر الأجنبي.

أمام هذا الوضع الكارثي تعالت أصوات “المعارضات” يمنة ويسرة، داعيةً إلى تشكيل جبهة إنقاذ لمواجهة منظومة الحكم، محمّلين مسؤولية تردي الأوضاع كاملة إلى الائتلاف الحاكم، الإخونجي-الليبرالي، حتى إن البعض من الشق الوطني المعارض، وهو يستميت في سبيل الحصول على مقعد في برلمان، بول بريمر أصبح يردّد عبارة ضرورة إنقاذ العملية السياسية وإنقاذ المسار الانتخابي والديمقراطي.

لا نعرف لمصلحة من يستميت البعض لانتشال وإنقاذ المسار “الديمقراطي”، فكلما تأزمت حال هذا المسار العفن بسبب تمسكه وتفانيه في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي وتطبيقه للإملاءات الامبريالية، هب الجميع -إلا من رحم ربي- لإنقاذه وإعادة الروح إليه، وكل عملية إحياء لهذا المسار تساهم في استدامة هذا الواقع.

قبل البدء في تقديم رؤيتنا للحل لابد من الانطلاق من تحليل عميق ودقيق للواقع، وقبل كل هذا وذاك، لا بد من ذكر تفصيل مهم، وإن بدا صغيراً، إلا أنه أساسي لفهم طبيعة قوى “المعارضة”، إن أهم ما يميز دعوات المعارضة لبناء تكتلات لمواجهة القوى الحاكمة في تونس هو توقيتها الزمني، حيث إنها عادة ما تنطلق قبيل افتتاح المواسم الانتخابية، وهو ما يجعلها، أي الدعوات، تتخذ طابع تحالفات انتخابية طارئة أكثر من كونها دعوات لتأسيس كتلة سياسية وازنة قادرة على مقاومة خيارات منظومة الحكم  القائمة.

لا شك في أن النضال السياسي الواعي هو الأثبت والأكثر فعالية وليس الانفعالي المحكوم بمنطق ردات الأفعال، وكنا نتمنى أن يقود وعي قوى المعارضة بقتامة المشهد إلى تشبيكها والتحامها في جبهة وطنية تقدمية قومية ويسارية مقاومة تقوم على برنامج سياسي استراتيجي، إلا أن هذا التحدي يبدو بعيد المنال، نظراً لوجود عدة عوائق، لعل أهم هذه العوائق هو اعتماد أغلب مكونات المعارضة لأسلوبٍ تحليليٍ يفتقر للمنهجية العلمية عندما يتعاملون مع “أقطارهم” كقطع معلقة في الهواء بعيداً عن تأثيرات الجغرافيا والتاريخ والقوانين التي تحكم حركة الواقع.

ومن مظاهر العبثية مثلاً: نشوء تكتلات تضم في صفوفها قوى سياسية تمتلك مواقف متناقضة من القضايا السياسية المركزية في الساحات العربية، وهو ما جعل بعضها يتبنى برنامجاً مقاوماً للامبريالية في تونس، في الوقت الذي يتقاطع موقفها السياسي مع الامبريالية في ليبيا وسورية والعراق واليمن، كذلك تبني بعضها لما يسمى “الربيع العربي” من جهة من دون إدراكها بأن ما تسعى إلى محاربته في تونس هو واحد من أهم مخرجات ذلك “الربيع”.

كل هذا يعطينا فكرة واضحة أننا إزاء معارضات، أغلبها على الأقل، غارقة في التخبط وتمتلك خطابات وبرامج تحمل في طياتها تناقضات خطيرة، وهناك أيضاً حرص الأحزاب المعارضة الدائم على الفصل بين ما هو قُطري وما هو قومي وإقليمي، خلال النقاشات الرامية إلى بناء جبهات وتحالفات سياسية، وإصرار الأحزاب على عدم الزج بتونس أو مصر أو المغرب في صراعات إقليمية، هو دليل على ضعف في الرؤيا، فسياسات الحكم التي نعارضها تأتي ضمن سياق قومي وإقليمي متكامل، وهي أشبه ما تكون بفسيفساء، وحكامنا هم جزءٌ من منظومة امبريالية دولية متماسكة، فما معنى التصدي لمسار دولي والانخراط في معركة قومية وعالمية بوعي مفكك ومشوه يتعسف على الواقع، أي أننا عندما نخوض معارك قومية ذات أبعاد دولية بأدوات قطرية فنحن نحكم على نضالاتنا بالفشل كوننا نعمل على اختلال ميزان القوى لمصلحة عدونا، فنفعل بأنفسنا ما عجز عن فعله عدونا بنا.

في المقابل تتسم القوى الرجعية في تونس مثلاً بوضوح في الرؤيا، وتتسم ممارستها بالعلمية والمنهجية أكثر من المعارضة، فعندما يقوم حزب “النهضة” الإخواني في تونس بتشبيك علاقاته بإخوان ليبيا وقطر وتركيا، ويفعل كل ما في وسعه لدعم إخوان مصر في الميدان وبالموقف السياسي، وعندما يقف ضد محاولة الانقلاب في تركيا، وعندما يصر على استقبال جون ماكين ومادلين أولبرايت وجورج سوروس وتوسيمهم في المقر المركزي لـ “حركة النهضة”، فهذا يدل على أنه حزب استراتيجي، وأن “الإخوان” يدركون أنه لا أمل لهم في تثبيت أركانهم إن لم يكونوا مدعومين من حلفاء على مستوى الإقليم وعلى مستوى دولي من خلال استدرار دعم أكبر قوة عالمية هي الولايات المتحدة، حليفهم الطبيعي والتاريخي بعد بريطانيا.

في المقابل، نجد أن حزب “نداء تونس” الليبرالي شريك النهضة في الحكم قد فهم قواعد اللعبة جيداً، وعلم أنه لن يتمكن من مواجهة خطر تغول اخطبوط “الإخوان” منفرداً، لذلك قام رئيس الحزب بزيارات استراتيجية إلى مراكز قوى عربية وإقليمية مناهضة للمشروع الإخواني وتحالف مع حكام الإمارات والسعودية وأقنعهم بدعمه بالموقف وتمويل حملته الانتخابية كون حزبه يشكل ضمانة لعدم تغول المشروع الإخواني الذي يخافونه، كما استغل علاقات حزبه التاريخية بباريس، باعتبار “الإخوان” قوة مدعومة أمريكياً وبريطانياً، بينما هي منبوذة فرنسياً وفي بعض أوروبا.

وكذلك الأمر بالنسبة لكل الأنظمة الرجعية، فعلى الرغم من عمالتها، إلا أن ممارستها السياسية أكثر علمية من المعارضة القومية واليسارية، وهي تتحرك وفق رؤية شاملة ومتمركزة ضمن أحلاف استراتيجية تخدم مصالحها.

كل ما تقدم يبين لنا مدى وضوح الرؤيا لدى من نطمح للإطاحة بهم، ويبين لنا أنهم استراتيجيون إلى أبعد الحدود، بينما تتسم معارضاتنا في أغلبها بضيق الأفق، فبدل تشبيك علاقتها بسورية والجزائر مثلاً، باعتبار أن أنظمة الحكم في كلا القطرين في حالة اشتباك مع الامبريالية وغير مرضي عنها غربياً، نجدها تسهب في وصف أنظمة الحكم فيها بالاستبداد والفساد، وفي أفضل الحالات هي لا تعاديها، ولكنها تترفع عن التحالف معها! في الوقت الذي يدرك فيه الغرب أي خطر يمكن أن تشكله هاتان الدولتان، فالجغرافيا تؤهلهما أن تكونا مشروع حاضنتين لأي مشروع تحرري عربي.

كما أن أغلب معارضاتنا لم تدرك بعد أن معاداتها للمشروع الامبريالي داخل حدود أقطارنا يفرض عليها تصادماً مع العدو الصهيو-أمريكي، وهو أمر يفرض بالضرورة ربط علاقات وبناء تحالفات مع الجزائر وسورية عربياً، والصين وروسيا وإيران وفنزويلا دولياً، فاختلاف الأيديولوجيات ليس هو المحدد في تأسيس الجبهات، وليس محدداً لمدى تماسكها، بل الرؤيا المشتركة والتخندقات هي المحدد الحقيقي، وهذا ما جعل تحالفاً متيناً استراتيجياً ينشأ بين قوى علمانية وأخرى إسلامية – نموذج: سورية – إيران – حزب الله.

باختصار، إذا كانت المعارضات جادة في سعيها للتأثير في مسار الأحداث فعليها أولاً أن تنضج وتتصرف كقوة سياسية مؤهلة للحكم، وأن تعي أن عليها أن تمتلك نظرة أوسع أفقاً وأرحب وعياً وأعمق مما هي عليه اليوم، وألا تغرق في التفاصيل، وأن تكف عن اعتبار نفسها مجرد قوة احتجاجية قادرة على إزعاج المنظومة الحاكمة في أفضل الحالات، ويتضح ذلك من خلال غياب الوعي الاستراتيجي وعدم الخروج من حيز ردة الفعل وعدم قدرتها على إنشاء تحالفات داخلية وخارجية متينة وقوية قادرة على مواجهة اللوبيات الحاكمة المدعومة من الدوائر الامبريالية.

ليس هذا تعسفاً منا على معارضاتنا، فعندما نتحدث عن البرنامج هنا فإننا لا نعني بذلك الشعارات المرفوعة أو المكتوبة هنا وهناك أو في بعض الورقات التي أعدت لغرض الدعاية الانتخابية، وإنما نقصد البرنامج الحقيقي الذي تترجمه الممارسة العملية.

بين المنشود والمتاح نقدم تصوراً للمواجهة، مواجهتنا مع الأنظمة الرجعية وخياراتها الانبطاحية بعيداً عن الشعارات الفضفاضة والخطب الإنشائية.

المشاركة في العملية الانتخابية

تعتبر أغلب الأحزاب العربية اليوم أن الساحة الانتخابية إحدى أهم ساحات الاشتباك مع الامبريالية ووكلائها، إن لم نقل إنها الأهم، ويتساءل البعض حول سر عزوفنا عن المشاركة في العملية الانتخابية، وغالباً ما كان يقابل موقفنا هذا بشيء من الامتعاض، وينجر البعض لاتهامنا بالعبثية واللاواقعية.

سبع سنوات مرت على إطلاق “الربيع العربي”، والمحصلة كانت تزايد هامش الحريات وتنامي النفس “الديمقراطي” بمفهومه “الربيعي”، واعتبار الانتقال الديمقراطي- ديمقراطية صناديق الاقتراع-  هو الحل، والمخرج الوحيد لنا كعرب من كل أزماتنا.

هذا الطرح الذي بات يروج له غربياً وعربياً عبر مراكز الأبحاث والدراسات، كواحدة من أهم أدوات مشروع “الربيع ” التي ساهمت في تهيئة الأرضية له، أدى إلى انخراط أغلب الأحزاب في العمليات السياسية داخل الأقطار العربية، وقد تم تدجين هذه الأحزاب وإعادة تدويرها عبر إحداث تغيير جذري في وعيها عبر المراجعات التي مهدت لها مراكز الأبحاث العربية المخترقة، فأنتجت وعياً إصلاحياً لا يرى ضيراً في التعامل مع الواقع والاجتهاد في تحسينه وتجميله وفق الممكن عبر مقولات مثل: “السياسة فن الممكن”، وضرورة تحقيق بعض المكاسب داخل منظومة التجزئة ووفق شروط هذه المنظومة حتى لا نقصي أنفسنا خارج المشهد السياسي ولا نهمش أنفسنا.

الحل الحقيقي يكمن في الانخراط في العمل السياسي بغية إحداث ثورة اجتماعية تجتث عوامل التخلف والتجزئة والاحتلال، بينما يتسم الطرح الإصلاحي بأنه ليس استئصالياً من حيث النزعة، بل هو أقرب ما يكون إلى عملية، مثل هذا الوعي الإصلاحي المسخ هو النقيض الموضوعي للوعي الثوري الجذري الذي يرى الحل في قلب الطاولة على امتدادات النظام العالمي داخل أقطارنا العربية، فنحن نهمش أنفسنا عندما نقبل بالدخول في لعبة تجردنا من أهم سلاح نمتلكه وهو تثوير الجماهير بدل تدجينها، وتأليبها في اتجاه افتكاك حقوقها بدل الاحتكام إليها.

نحن هنا لا نرفض مبدأ الاحتكام إلى الجماهير، بل نرفض الاحتكام إلى جماهير مسلوبة الإرادة وموجهة عبر قنوات إعلامية ودعائية ومالية لا مكان لنا فيها ولا قبل لنا بها، فنحن نرفض الاحتكام إلى الجماهير التي لم تسمعنا والتي شوهوا صورتنا في أذهانها زوراً وبهتاناً عبر القصف الإعلامي الممنهج.

إن رفضنا للانخراط في العملية السياسية الانتخابية ليس مبدأ مطلقاً، وليس من باب الطهرانية التي تقود إلى الانعزال، إنما هو موقف سياسي راهن يمكن أن يتغير بتغير الظروف والساحات، ونحن نؤمن بضرورة تحقيق الشروط الموضوعية للمشاركة قبل الانخراط بها.

حال مشاركتها في العمليات الانتخابية، قامت الأحزاب العربية القومية واليسارية بطرح ورقات وبرامج انتخابية تنادي بالعدالة الاجتماعية وتتمحور حول مقولة الانتصار للطبقات الشعبية الكادحة والمفقرة، ظناً منها أن تقديم برنامج انتخابي ينتصر للجماهير سيساهم في تقريبها للجماهير، إلا أن الجماهير لا تقرأ ولا تسمع.. بل تحس.

على الرغم من أهمية البرنامج وأهمية أن يكون واقعياً ونموذجياً، إلا أن ذلك ليس شرط النجاح في العملية السياسية، فلا يكفي أن نمتلك الحق حتى ننتصر.. والواقع يبين أن أكثر من وصلوا لا يمتلكون برنامجاً وطنياً بالمفهوم القطري، ولا برنامجاً قومياً ولا يسارياً، وأكثر من حصدوا أصوات الجماهير يحملون مشاريع معادية للجماهير.. والتغيير الاقتصادي والاجتماعي الكارثي الحاصل كنتيجة لانتصار هؤلاء في العمليات الانتخابية في كل من تونس والعراق وليبيا ومصر هو خير دليل على معاداتهم لمصلحة الجماهير وخدمتهم لمصلحة الدوائر الأجنبية .. فهم معادون للوطن .. ولا يمكن أن نتّخذ أسلوبهم نموذجاً كما يدعي بعض “المثقفين” الذين يشيدون بجدواه وفاعليته.

هم وصلوا عبر المال الرجعي والامبريالي، والدعم الذي حصلوا عليه كان عبر قنوات رأس المال، فهل علينا أن نتعلم منهم ونتبع مسلكيتهم؟ وهل نحن قادرون على منافستهم بأسلحتهم؟.

لأن مشروعنا يختلف جذرياً عما يطرحون، ولأننا نمثل النقيض الموضوعي لطرحهم، فإن مسلكيتنا ستكون حتماً مسلكية أخرى قادرة على جلب الجماهير لصفوفنا، وهي، أي الجماهير، الجسر الذي يوصلنا للتأثير السياسي.. ونحن بوصلتها للطريق الذي يمكن أن يوصلها لتحقيق مصالحها.

كيف؟

إن الأزمة التي يعيشها التيار القومي على امتداد الوطن العربي ليست أزمة فكرية بقدر ما هي أزمة آليات، حتى مشاركتنا في العملية الانتخابية تمت بطرق غير مدروسة، وكانت تعبر عن انسياقنا في المسار الذي تم رسمه، في تونس مثلاً انطلقت المعارضات من معلومة صحيحة ليصلوا بها إلى استنتاجات خاطئة لامنطقية.

توضح الإحصائيات للجميع أن نسب المشاركين في الانتخابات السياسية شهدت انخفاضاً حاداً بحسب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات:

– الانتخابات التشريعية 2014: العدد الإجمالي للمقترعين بجميع دوائر الاقتراع في البلاد بلغ ثلاثة ملايين و 266 ألفاً و 214 مقترعاً، فيما بلغ عدد المقترعين في انتخابات المجلس التأسيسي 4,053,905 عام 2011، وهو ما يمثل انخفاضاً مقداره أكثر من 24٪، وسنرى ما تسفر عنه الانتخابات التشريعية في عام 2019.

– الانتخابات البلدية 2018: العدد الإجمالي للمقترعين بجميع دوائر الاقتراع في البلاد بلغ مليوناً و 796 ألفاً و 154 مقترعاً، وقد أجمع المراقبون والمنظمون كما الأحزاب السياسية على أن نسبة المشاركة صادمة ومخيبة للآمال في مقابل التوقعات والدعايات التحفيزية الكبيرة التي قامت بها الدولة، وهو ما يدل على عزوف الجماهير وعدم ثقتها في المشهد السياسي جملة وتفصيلاً، والسبب وراء سخط الجماهير على المشهد السياسي وانسحاب الأغلبية من المشاركة في اعتقادنا يعود لإدراكها أن الأحزاب المشاركة لا تعبر عن طموحاتها، وأنها عاجزة عن تقديم حلول لمشكلاتها، وأبعد ما تكون عن همومها.

وسط هذا المشهد تتوهم المعارضة أن اندفاعها نحو العملية الانتخابية وتقديم شعارات وخطب رنانة تتغنى بالكادحين وهمومهم ومشاغلهم سيمكنها من تحقيق مكاسب مهمة كونها الأجدر بنيل الثقة، فنرى الأحزاب القومية واليسارية تتسابق في تشكيل قوائم انتخابية متعددة وتكتلات مختلفة، وكل ائتلاف بما لديهم فرحون.

وفي قراءتنا لهذا المشهد نرى أن:

– أغلبية الشعب عازفة عن المشاركة في المهزلة الانتخابية وجمدت ثقتها في اللعبة الديمقراطية حتى إشعار آخر.

– قواعد الإخوان والليبراليين من أنصار النظام السابق ثابتة، ولا يمكن أن تميل إلى انتخاب قوى يسارية التوجه بأي شكلٍ من الأشكال.

– القوى القومية واليسارية عجزت عن تشكيل تحالف انتخابي واسع وجامع، كما أن تقديمها لقوائم متعددة ومشتتة في ظل غياب الموارد المادية والإعلامية سيخلق حالة استقطاب حاد داخل صفوف المعارضة نفسها، كونها غير قادرة على استمالة قواعد الأغلبية الحاكمة، بل ستعمل على تقاسم قواعدها الانتخابية (أي القواعد المحسوبة على القوميين واليسار) التي ستتفرّق وتتشتت حين تجد نفسها أمام عدة خيارات.

– المشاركة الضعيفة للمعارضة تمكنها فقط من أن تحتل موقعاً “ديكورياً” عن جدارة، لا تتجاوز وظيفته إضفاء الشرعية على قرارات الأغلبية حتى وإن عارضتها، فبمعارضتها لهذه القرارات تمنحها الصبغة الديمقراطية.

الحل قطعاً هو اكتساب ثقة الأغلبية التي تراجعت، ونيل ثقتها يكون في الشارع أولاً، وليس في قاعات الاقتراع.

وسبق أن قلنا إن الجماهير لا تقرأ البرامج ولا تستمع إلى الخطب، بل تحس بمن يلتحم معها ويقودها نحو انعتاقها، الجماهير تلتحم بمن تحس بمصداقيته ويطابق قوله فعله، والفعل يكون في الساحات النضالية وليس الخطابية الانتخابية.

كسب ثقة الجماهير يكون عبر امتلاك خطاب واضح وجريء يقرأ نبض الشعب ليكون قريباً منه، ولا يخطب ودّ الدوائر الامبريالية ولا يخشى استغضاب من تسبب في تفقيرها ونهب مقدراتها.

كسب ثقة الجماهير يكون بالرجوع للشارع والتخلي والخروج من الأطر التي لفظها الشعب وسحب ثقته منها، والاشتباك مع قوى الهيمنة الخارجية وكل من يعمل لمصلحتها.

عندها، لابأس من المشاركة في العملية الانتخابية ولا خوف من خوضها، دون أن نغفل عن ماهيتنا كثوريين جذريين قوميين ويساريين.

هذه الورقات هي دعوة جادة لمراجعة حقيقية لأدائنا كقوميين، ونقد مسلكياتنا نقداً بناءً يرمي لإخراجنا من حالة الوهن والضياع التي باتت سمتنا الأبرز كتيار، وتطوير أدائنا بما يسمح للفكرة القومية بالخروج من الحيز الورقي إلى أرض الواقع، والانتقال من الشعار إلى التطبيق، والدفع إلى مراجعة الآليات المتبعة من طرف القوى السياسية، ودحض فكرة تمكنت من السيطرة على وعي ولاوعي العديد من الوحدويين مفادها أن القومية العربية قضية شعاراتية حالمة، وأن القوميين أبعد ما يكونون عن العلمية، وأنهم ينادون بفكرة غير ممكنة التحقيق، وإن تحققت ربما فإن ذلك سيكون بعد مئات أو آلاف السنين! وعندما نسأل كيف؟ تكون الإجابة في أغلب الأحيان: لا ندري!.

غياب رؤية وتصور واضح للآليات

بعد سلسلة من الحوارات مع عدد كبير من القوميين، منتظمين ومستقلين، شباباً وشيوخاً، اتخذت طابعاً ودياً، وبعد محاولة فهم العوامل المؤدية إلى تبني مسلكيات تتناقض مع القناعات الأيديولوجية المرفوعة، توصلت إلى قناعة مفادها أن السر وراء هذا الوضع هو غياب رؤية وتصور واضح للآليات، وهذا ما أدى إلى تخبط في الأداء وارتجالية أفقدت الأحزاب والتنظيمات القومية بوصلتها في كثير من الأحيان وأفرغتها من محتواها الوحدوي الذي ظل حبيس الشعارات والهتافات، وأصبحت هناك هوة سحيقة بين الشعار والممارسة تزداد يوماً بعد يوم.

نحن نقف أمام حالة فصام حقيقي وعدم انسجام بين روح المناضل القومي وقناعاته وعقيدته السياسية من جهة، وممارسته من جهة أخرى.

عند تقييمنا لأداء حركات التحرر العربي نجد أن لها حسنات كثيرة على الرغم من بعدها عن الكمال، وأن تجربتها بحاجة إلى التطوير والتحسين المستمرين، وعندما نتحدث عن التطوير فهذا يعني المحافظة على النجاحات والإيجابيات، والاستفادة من الأخطاء عبر تصويبها وتجنب تكرارها، ومن هذا المنطلق التقييمي نلاحظ أن الفضل في الإنجازات التي حققتها حركات التحرر العربي في زمن المد القومي خلال خمسينيات وستينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي يعود أساساً إلى تمسكها بمسلكيتها الثورية وعنفها الثوري كخيار استراتيجي لمواجهة العنف الامبريالي، لهذا عمدت الامبريالية إلى تجريدنا من سلاحنا الاستراتيجي ألا وهو خطابنا ومسلكيتنا عبر أدواتها الناعمة وأساطيل المثقفين الذين اخترقوا معسكرنا وتلبسوا بلبوسنا وتكلموا بمصطلحاتنا وعملوا بشتى الطرق ولعقود على إقناعنا بضرورة التخلي عن جوهرنا مع الإبقاء على القشور ولم يدخروا جهداً في ذلك مستغلين كل المنابر المتاحة الإعلامية والثقافية، وأسالوا الكثير من الحبر، وأطناناً من الورق في سبيل ذلك.

وفي المحصلة تمكنت الامبريالية من حرف الصراع عن مساره حين أقنعت قطاعات واسعة من القوميين واليسار بأن أزمتنا الحقيقية هي أزمة حريات وحقوق إنسان، وأن محاربة الاستبداد أولى من مجابهة الاحتلال والهيمنة الخارجية والتقسيم.

فأصبحت الثورة والكفاح المسلّح “تعنتاً بالأطروحات الماضوية”، وأن لغتها “خشبية ومن الماضي”، ولم يعد لها مكان في عالمنا المتحضّر الديمقراطي جداً، وأنّ المتغيّرات تحتّم علينا اتباع المسار الديمقراطي الغربي، وأصبح “الصندوق” الانتخابي أحد مقدساتنا التي ينبغي علينا الحفاظ عليها أكثر من حرية الناس وأرواحهم وأرزاقهم، وبينما تمّ دفع الثوريين إلى التنازل عن مصطلحاتهم ومفاهيمهم خوفاً من نعتهم باتباع الدوغمائية واتهامهم بالتكلّس وعدم الواقعية والجمود والشمولية، نجد في المقابل أن الامبريالية حافظت على كلّ ممارساتها الاستعمارية الرأسمالية من استغلال ونهب مقدرات الأمم وشنّ الحروب على الشعوب الآمنة ودكتاتورية الشركات والبنوك العابرة للقارات.

وبالمقابل يطلبون من مناهضيهم أن يغيّروا محتوى أسلوبهم الكفاحي والثوري وليس مصطلحاته فقط، كل هذا لأن الامبريالية تسمّي الكفاح التحريري إرهاباً.

المشروع القومي العربي إما أن يكون ثورياً أو لا يكون.. فالفكرة القومية في جوهرها تمثل النقيض الموضوعي للواقع القطري السائد، فالوحدة هي النقيض الموضوعي للتجزئة، والصراع بين هذين الضدين صراع تناحري، وضمانة استمرارية، أي طرح منهما مرهون بفناء الطرح الآخر.

فكل خطوة نخطوها نحو كسر واقع التجزئة هي تقدم لمصلحة المشروع القومي العربي، وكل عملية تطبيع مع واقع التجزئة تغذي المنظومة القطرية، ولو كانت بأيد “قومية”، حتى لو كانت دوافعهم نبيلة تحت شعار تحقيق مكاسب للقوميين تصب عملياً في مصلحة أعداء المشروع القومي العربي، وكل من له مصلحة في الإجهاز على الفكرة الوحدوية، والانخراط في المنظومة القطرية بأدوات قطرية والعمل بآلياتها يكرسها حتى لو كانت الغاية المرجوة قومية.

وكلمة السر في الإجابة عن سؤال: ما الحل؟ هي: الآليات والجماهير “الملايين” من الذين منحوا ثقتهم لعبد الناصر، ولتشافيز، ولبشار الأسد، والذين تحمّلوا أعباء الصراع مع الامبريالية لم يكونوا ليفعلوا ما فعلوه لو لم يحسوا.. أقول يحسوا.. بصدقهم وقربهم منهم.

ولم تكن الجماهير لتصمد أو يستمر صبرها في تحمّل الأعباء لولا إبداع هذه القامات في اجتراح آليات مبتكرة قادرة على تحقيق مكاسب حقيقية على أرض الواقع.

لا وجود لثورة دون جماهير.. ولا يقدر على تحريك الجماهير من يحتقرها ويتعالى عليها.. وقبل الاحتكام للجماهير علينا أن نضبط الموجة بيننا كمناضلين وبين الجماهير حتى نمتلك قلوبها، ونستحق شرف قيادتها نحو الانعتاق عن جدارة.