الأدب والأمثال الشعبيّة مرآة لثقافة المجتمعات
ليستْ الصّورة التي يشكّلها الباحث التّاريخيّ في ثقافات الشّعوب من خلال تحقيقه للكتب التراثيّة ولا الدّراسات الموضوعيّة المختصّة بعلم الأنسنة والمجتمعات، هي المراجع الوحيدة لمعرفة نمط وطريقة تفكير الشّعوب، بل ثمّة صورة لا تقلّ مصداقيّة عنها يمكنُ تحصيلها من آدابها وأمثالها الشعبيّة التي ستعكس بالضرورة ذهنيّة تفكيرها، وتعطي تصوّراً معقولاً لتطوّر أعرافها وعاداتها ومنظومة قيمها، فبقراءة دوستويفسكي بروايتيه المشهورتين “الجريمة والعقاب، والأخوة كارامازوف” أو تولستوي بروايته الأشهر “الحرب والسلم” ، ورواية “الأم” لمكسيم غوركي، وغيرهم من عمالقة الأدب الروسيّ نستطيع رسم صورة جيّدة عن طبيعة المجتمع الإقطاعيّ الروسيّ ومنظوماته الأخلاقيّة والماديّة في القرن التّاسع عشر وحتى الحرب العالميّة الأولى وقيام الثّورة البلشفيّة. كذلك تفعل مسرحيّة “تاجر البندقيّة” لشكسبير التي تفضح الدّور اليهوديّ في المجتمع البريطانيّ في القرون الوسطى، ومسرحيّة “الدّمية” لأبسن التي فتحتْ الباب على مصراعيه كما قِيل أمام الحركة النّسويّة الحديثة، للإعلان عن فجر تشكّلها، من خلال سلوك بطلتها “نورا” التي رفضتْ أن تُعاملها الثقافة الذّكوريّة المسيطرة كـ “دمية” فحين خرجتْ من البيت وصفقتْ الباب خلفها، أُغلق بابٌ للخنوع لم تكن تتجرأ النساء على إغلاقه لولا هذه المقدّمات التّاريخيّة التراكميّة للوعي النّسوي، والتي تعني أيضاً، بأنّ ثمّة مرحلة جديدة من تخطّي القيم والأعراف البالية المسيطرة على الذهنيّة المجتمعيّة ومن ضمنها “النسويّة” كحالة من حالات توطيد الاستلاب التاريخي، هي في طريقها إلى الزوال. ولكن لابدّ من جرأة البدايات ومغامراتها وتضحياتها، والذي يفتح الأبواب أمام رياح التّغيير، إلى جانب شروط أخرى موضوعيّة وذاتيّة، هو الأدب والفنون بمختلف أنواعها، وهاهي العبارة الشهيرة للروائيّ الفلسطينيّ الشّهيد “غسان كنفاني”: “لماذا لم يدقّوا جدار الخزّان” تكاد تُلخّص حالة الوعي الشّعبيّ العربي والرّسمي وخصوصاً الفلسطينيّ ما قبل النّكبة، أثناء فترة النّزوح إلى أرض الشّتات. حيث لم يكن الوعي بكارثيّة النتائج التي توصّلنا إليها تباعاً فيما بعد قد تبلور، ولم تكن المؤامرة الاستعماريّة التي حاكتها الدول الكبرى تجاه القضية الفلسطينية وبالتحديد المؤامرة البريطانيّة آنذاك قد توضّحتْ ملامحها والتي اختزلها “وعد بلفور” المشؤوم بأوقح صورة عرفها التاريخ، مفترضاً أنّ فلسطين هي أرض بلا شعب، وسيمنحها لشعبٍ بلا أرض هو الشّعب اليهودي المضطّهد، وسيعيد “شعب الله المختار” إلى “أرض الميعاد” أرض أجداده التاريخيّة كما يزعمون..
أمّا الوجه الآخر للنفاق البريطاني فكان يتستّر على حقيقةٍ تقول بأن أوروبا كلّها لم تعد تحتمل العنصر اليهودي النافر في مجتمعاتها وستزرعه في منطقتنا تحت حججٍ تاريخيّة واهية، وهذا ما أراده أيضاً زعيم النّازية المريض نفسيّاً “هتلر” فيما بعد، من خلال المحرقة الشهيرة بحقّهم، والتي ظلّتْ تتباكى عليها الصهيونيّة العالمية كثيراً وتستخدمها على أعلى المستويات في خدمة مشروعها، وما زال زعماؤها يمارسون دورهم في ابتزاز أوروبا وتحديداً ألمانيا حتى الآن، وسرعان ما انهارت هذه العربدة الصهيونية في العصر الحديث على يد شيخ جليل هو “حسن نصر الله” الذي أحيا روح المقاومة في الموروث الديني، بعبارته الشهيرة “إسرائيل أوهى من بيت العنكبوت” والتي أعادت بدورها الاعتبار للكرامة العربيّة المهدورة، وقد تجلى ذلك في السلوك العملي بانتصارات كبيرة أعادت الثقة للجماهير بدورها في صنع مأثرة الانتصار. ثمّ بعد أن تحقق توازن الرعب بدأت حرب من نوعٍ جديد وعلى أعلى المستويات أيضاً، هي حرب الأدمغة والعقول، أمّا في المراحل التي تطغى فيها أنظمة الحكم الشموليّة وتُكتم الأنفاس، ويعمّ الحكم الفرديّ المطلق، والرّأي الواحد والطّيف الواحد والشّعارات الواحدة والثّياب الواحدة المعمّمة على الجميع، فتكثر الأمثال الشّعبيّة الاستسلاميّة التي تدعو للخنوع والذلّ مثل: “امشِ الحيط الحيط وقل يا ربّ السترة” “واللّي بياخد أمنا بنقلّوا ياعمنا” و”العين ما بتقاوم المخرز” و”إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب” “مشّيها وازرعها بها لدقن”.. و”الأيد اللي مافيك تعضّها بوسا وادعيلا بالكسر” و”الله يجيرنا من الأعظم” و”أيد واحدة لاتصفّق”… إلخ، وفي المراحل الرماديّة التي يكثر فيها التشكّك المبطّن والاتهامات العشوائيّة، بحيث يتلمّس رأسَه كل مشكوكٍ بأمره، وكأنّه موضوع شبهة، يُقال: “اللّي فيه شوكة بتنخزو” و”اسّا ما وصل البلّ للدقن”.
ومع إتباع سياسة التقشّف أثناء الأزمات المعيشيّة، تنتشر أمثلة مثل: “على قدّ بساطك مدّ رجليك” “خبّي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، “والحياة عاطيتنا أكثر ما منستاهل” وأنّ القوى الخفيّة تمتحن إيماننا وصبرنا كما امتحنتْ “أيّوب” سابقاً، أو أنّنا قوم ضالّون ونستحقّ العقابَ. وفي مراحل الفوضى وانهيار المنظومات القيميّة في المجتمعات نتيجة الحروب، تعمّ أمثلة عدائيّة تدعو لشحذ الأنياب، مثل: “إذا لم تكن ذئباً أكلتكَ الذّئاب” و”حلال ع الشاطر” “اتغدّى فيه قبل ما يتعشّى فيك” و”اللهمّ أسألك نفسي” و”مية أم تبكي ولا أمي تبكي” وحين تُفقد الأنياب المسنونة لسببٍ أو لآخر، فسيحلّ الوقار الزّائفُ، على مبدأ: “حين يَفقِدُ المرء أسنانه يسهل عليه القول: من العار أن تعضّوا أيّها الرفاق”.
أما في المراحل الثّوريّة من عمر المجتمعات، فتهدرُ الحناجرُ بالأناشيد الحماسيّة الدّاعية لاستنهاض الهمم وتقوية الرّوابط ورصّ الصّفوف، والهتاف: “إذا ما جعتُ آكل لحم مُغتصبي ولا أرحل” أو “نيرونُ مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل” أو “ارحلوا أيّها العابرون في الكلمات العابرة” و”بمشيئة الملّاح تجري الريح والتيّار يغلبه السّفين” بعد أن كانتْ الرّيح تجري بما لا تشتهي السّفنُ، في المراحل السلبيّة. ومع نموّ ثقافة المراجعة النقديّة والاقتراب من الموضوعيّة، نسمع من يقول: “إذا أشرتَ إلى الآخرين بإصبع فأشرْ إلى نفسك بثلاث”. وهو شعار المحاسبة الأهم بهذه المرحلة على الصعيدين الفردي والمجتمعي باعتقادي.
أوس أحمد أسعد