من حلب (5)
د. نضال الصالح
بدلاً من أن تستسلم ندى لذراع أمّها وجدت كفّها تستلقي في كفّ فايز، ولم تكد تفعل، حتى اضطرب جسدها كلّه، ثمّ بدلاً من أن تعيد ذراعها إلى ذراع الأمّ وقد استنفرت عيون أربعة حولها، عينا أمها وعينا شقيقها، أرخت بجسدها على كتف فايز الذي لم يكد يصدّق ما حدث حتى أحاطها كلّها بذراعيه، ثمّ حملها كما يمكن لقويّ أن تستقر دمية بين يديه، وهبط درج المشفى حتى بلغ مدخل الإسعاف الذي كان محتشداً بالمسعفين والمصابين وذويهم، وكان يطلب إليهم الابتعاد عن طريقه حتى بلغ سيارته، وفتح بابها الخلفيّ، ومكّن ندى من الجلوس، كما ساعد أمها أيضاً، وما إن استقرّ شقيقها إلى المقعد جواره، حتى مضى بسرعة فائقة من شارع إلى آخر، مبرزاً بطاقته العسكرية من حاجز إلى آخر، إلى أن وصل إلى البناء الذي تسكن أسرة ندى فيه، قريباً من ساحة سعد الله الجابري.
أقسمت أم ندى أن يصعد فايز إلى البيت، فيشرب فنجاناً من القهوة، ويرتاح من وطأة تلك الليلة الباهظة الجنون، جنون المسلّحين الذين تدفقوا على الساحة، وجنون المستشفيات وهي تزدحم بالمصابين ممن طالتهم قذائف جهنم طوال اليوم، وجنون الشتاء وهو يجثم بثلوجه وأمطاره الغزيرة فوق صدر المدينة، ولا سبيل لمنجاة من البرد، لا وقود للمدافئ، ولا كهرباء، ولا شيء يحمي الكبار والصغار من طيش القذائف وطيش الطبيعة معاً.
وعلى نحو لم يكن أحد يتوقّعه، ليس ندى أو شقيقها فحسب، بل، أيضاً، الأسرة جميعاً، أعادت أم ندى سؤالها اللازمة ولكن على نحو آخر: “ومتى ستفكّر بالزواج يا ابني؟”، وأضافت هذه المرة: “أنت ابن حلال وألف بنت تتمناك”، فعادت الابتسامة التي صخبت في عينيه عندما سألته أول مرة إلى الحياة من جديد، وقال: “عندما سينتهي هذا الجراد يا خالة”، وكانت عيناه تتلصصان على وجه ندى الذي استعاد بعضاً من حنطته الصافية، وأكمل: “وسينتهي، لا بد سينتهي يا خالة، وعند ذلك لكلّ حادث حديث إذا بقيت على قيد هذه الحياة”، ولم يكد ينهي الكلمة الأخيرة، حتى عاجلته ندى بقولها وقد ازدادت حنطة وجهها صفاء على صفاء: “بمثلك تليق الحياة”.
في اليوم الثاني، بل في صباحه على نحو دقيق، كان جرس البيت يؤذن بضيف على عجلة من أمره ليفتح أحد الباب له، ولم تكد ندى تبلغ الباب، ولم تكد ترى الضيف من خلال العين السحرية التي تتوسط منتصف أعلاه، حتى صخبت حنطة وجهها بحمرة مباغتة، ولم تنتبه إلى نفسها إلا بعد أن فتحت الباب، ورأت عيني فايز تتسعان دهشة على آخرهما، وفايز نفسه يردّد: “والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها”، فأحاطت صدرها المكشوف قليلاً بذراعيها، وتركت الباب موارباً، ثم هرعت إلى غرفتها، فواجهتها المرآة بفتاة لم تكن عرفتها من قبل، هي ندى وليست ندى، ندى أخرى تختلط حمرة شفيفة بسمرتها الفتنة، وكان ثمّة صوت ينهمر من غير جهة في روحها التي كانت أشبه بفراشة من نور في سماء باذخة الزرقة والصفاء: بمثلك يا فايز تليق الحياة.