“النجوم والأنواء” في التراث العربي
مراقبة السماء، ورصد حركة نجومها وشهبها، تغير مواقعها، خفوت لمعان أحدها، وتوهج آخر، كانت من التسالي القليلة، التي وجد فيها العربي الساكن في الصحراء والبوادي، والمقيم في بيوت الشعر، ما يروح عن نفسه به، وما يسليه، في لياليه الطويلة، خصوصا وأننا نتكلم عن مرحلة، كانت فيها الحياة تندلع مع شروق الشمس، وتهجع مع مغبيها، ومع تكرار هذه المراقبة لحركة النجوم وربطها بظواهر طبيعية بالتزامن مع تغير في حركة هذا النجم أو ذاك، تطورت علاقته مع تلك النجوم، والظواهر الطبيعية التي كانت تحدث، وكان من الطبيعي أن تدفعه هذه العلاقة إلى التفكير بها، ووضع التسميات والصفات والشروحات الشكلية لما شاهده ولاحظ تكرار حدوثه، في مواقيت محددة من كل عام، وذلك حسب علمه وثقافته؛ هذا العالم بغرابته وجماله، بوسع رقعة الحديث فيه، إن كان في الحالة الأدبية أو العلمية، هو العالم الذي اختار د. “علي حسن موسى” الخوض فيه، وذلك في كتابه (النجوم والأنواء)، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
الكتاب لا يذهب نحو الاستنتاجات البحثية، بقدر ما يسعى لأن يقدم لذلك الحال أو تلك العلاقة بين الإنسان وعالم السماء والظواهر الطبيعية “الجوية” منها خصوصا، بكل مهنية علمية، خصوصا وأنه خاض في هذا الشأن طويلا، بدراسته لمعظم الكتب القديمة التي تناولت كل ما يتعلق به، مثل كتاب (الأنواء) لأبي حنيفة الدينوري، وكتاب (الأزمنة والأمكنة) لأبي علي المرزوقي الأصفهاني، وكتاب (الأزمنة والأنواء) لابن الأجدابي، وغيرها من كتب التراث العربي، التي جاءت على الخوض في هذا العلم، ففي ذاك الوقت، لم يكن من فاصل بين العلوم، لذا كانت كل العلوم تُسمى “إنسانية”، وكانت جميعها غايتها الإنسان، فلهذا من الطبيعي أن يذهب الشاعر مثلا لأن يكون فلكيا، أو معالجا، أو موسيقيا، وبما أن البيئة العامة للمناخ القاسي الذي عاشه “العربي-البدوي”، في الصحراء الجافة، لم تكن مساعدة على الذهاب نحو عوالم أخرى، لذا بقيت عقولهم مشغولة ومبهورة ببريق السماء، وضياء قمرها، حتى شعرهم-فنهم الأجمل- جال وصال فيه، وأيضا كان من الطبيعي أن يبرز من بين أولئك المراقبين، من هو أكثر علما من غيره فيما ذهب إليه، للجد والمثابرة وللعديد من المفاهيم الأخرى، التي تجعل من العالم عالما، فيرصد بدقة، ويسجل الملاحظة، ويُعرف الأسباب، وهذا ما كان من حال تطور العلاقة مع السماء، خصوصا في ظل وجود أديان “سماوية” ظهرت بين فترة وأخرى متباعدة عنها، وحدث أن ربط من نبغ في هذا المجال بين النجوم وأحوال الطقس مثلا، برد، حر، ريح، مطر، وحركة هذه النجوم.
يُعرف الكاتب علم الأنواء، بعلم الظواهر الجوية، أو علم الأرصاد الجوية –الميتيورولوجيا-ويعرف أيضا بعلم الجو وظواهره، وكلمة “ميتيورولوجي”مؤلفة من مقطعين “ميتيور” وتعني الشهب، وهي الأجسام المضيئة في السماء في بعض الليالي، جراء تصادم الجسيمات الصلبة، التي مصدرها المذنبات وفتافت النيازك، و”لوجي” وتعني علم، وهذا العلم يسمى أيضا علم (الظواهر الضوئية)، وغيرها التي تحدث في الجو المحيط، ومالها من آثار مباشرة وغير مباشرة على الأرض، من هطولات متنوعة، رياح، عواصف غبارية وغيرها، وفي المناطق الساحلية البحرية، حيث تهيج مياه البحر وترتفع، بفعل اضطراب شديد في الحالة الجوية من: رياح عاصفة، وأمطار انهمارية سابقة لها، يُطلق عليها عامة الناس وخاصتهم من بحارين، اسم (نوء البحر)، وهذا يعني أن النوء يرتبط بالرياح العاصفة والأمطار الغزيرة وأمواج البحر الظاهرة، وهو قد يكون خفيفا أو متوسطا أو شديدا وكارثيا، إلا أن كل هذه الأشياء كانت بعيدة عن طرق القياس، التي لم تكن متوفرة، وهذه الأحوال الجوية، كانت تقاس بالظاهر منها والدال عليها.
أما علم النجوم، الذي يمكن اعتباره أحد فروع علم الفلك، وإن كان هناك من يستخدمه كمرادف له بنفس المعنى، فهو علم يهتم بدراسة النجوم، من حيث نشأتها، تطورها، بنيتها، تركيبها، أبعادها، وهو بذلك يختلف عن ما يسميه الكاتب بعلم (أحكام النجوم)، والذي تعامل معه الأقدمون كمرادف لما يُعرف بعلم “التنجيم”؛ وهو ما يمكن استخلاصه من هذا العلم، بكونه يهتم بمعرفة النجوم، بأحكامها وأفعالها المرئية للناظر إلى السماء، ومن الممكن تضمينه دلالات النجوم على الأحوال الجوية، وقد كان مستخدما عن العرب قديما، ما يعرف باسم (مناظر النجوم) بما تدل عليه النجوم الظاهرة في السماء، وعلم (الهيئة)، المهتم بأشكال النجوم، كما تبدو لعين الناظر، ومن المعروف أنه كان للعرب معرفة واسعة بالنجوم المرئية في السماء، من حيث مواقعها وتجمعاتها، لمعانها، حركتها، دلالتها، فضلا عن تحديدهم للصور السماوية النجمية الاثنتي عشرة “البروج الشمسية”، التي كانت تعد خلفية المسار السنوي الظاهري للشمس، وتطورت معرفتهم، فوصلوا إلى (48) صورة نجومية سماوية، كما هي مذكورة في كتاب “صور الكواكب الثمانية والأربعين” للصوفي، وهذا التطور اقترن بمراجعتهم لدراسات من سبقهم من البابليين والكلدانيين وسكان بلاد ما بين النهرين والمصريين القدماء، وأيضا الاطلاع بحكم الترجمات اللاحقة، على ما رصده علماء الفلك الإغريق من أمثال “بطليموس” في كتابه (المجسطي)، وحدث أن استخدم العرب البروج وبعض دلالاتها، للتعرف على تغيرات الأحوال الجوية “الأنواء” ومعرفة الأزمنة، ومواقيت الحر والبرد، المطر والريح، فضلا عن إسقاطات أخرى للبروج في مجال التنجيم.
كتاب (النجوم والأنواء) من الكتب الممتعة والمفيدة ولمختلف الأعمار، خصوصا وأنه يقدم المعلومة بشكل متسلسل، عدا عن التعريف بالعديد من الظواهر الجوية وأسماء النجوم، وتوقعات نتائج حركاتها ونشاطها، ود. “علي حسن موسى” وضعه بلغة مرنة، علمية ومطواعة، بحيث لا يشعر القارئ بالتقعير أو بما ينفره من قراءة الكتب العلمية عموما.
تمّام علي بركات