ثقافةصحيفة البعث

 “بينما ينام العالم”.. هل يمكن للإنسانية أن تستعيد ذاتها؟!

 

“أرادت آمال أن تحدق في عيني الجندي عن كثب، ولكن فوهة بندقيته الآلية التي ضغطت على جبينها لم تكن لتسمح بذلك، ومع ذلك، فقد كانت قريبة بما فيه الكفاية لترى أنه يرتدي عدسات لاصقة، تخيلت الجندي يميل نحو المرآة لوضع العدسات في عينيه قبل أن يرتدي ملابس الخروج استعدادا للقتل، حدثت نفسها: “ما أعجب الأشياء التي نفكر فيها في تلك المساحة بين الحياة والموت”.

كانت هذه مشاعرها في أول احتكاك لها بجنين التي أرغمت وعائلتها على الابتعاد عنها عام 1967 وكانت عادت إليها عام 2002 بعد غياب طويل ما بين مخيمات اللجوء والاستقرار الأخير في أمريكا والعودة إلى وطن لم تكن قد عرفته، وهي شرحت في نهاية روايتها أن الرحلة أتت بعد تقارير عن مذبحة في مخيم المدينة الذي تم عزله عن العالم وأغلق في وجه الصحافيين والعاملين في مجال الإغاثة، بوصفه منطقة عسكرية مغلقة من قبل الجيش الإسرائيلي.

تماهٍ

بلغة شعرية تستند على المأساة الفلسطينية تلاحق سوزان أبو الهوى تفاصيل حياة عائلة “يحيى أبو الهيجا” في روايتها “بينما ينام العالم” وعبرها ترصد سيرة حياة أجيال أربعة من العائلة التي انتزعت عنوة من أرضها بداية من “عين حوض” المحتلة، وتعاود النزوح من جديد عن “جنين” حيث أقامت في أحد المخيمات هناك، في محاولة من الكاتبة لاستعراض تاريخ المأساة الفلسطينية وتوثيق جزء صغير منها هو صورة عن معاناة أبنائها في مختلف مراحل النكبة المستمرة، وعن: “تجريد المرء حتى العظم من إنسانيته، وإلقائه في مخيمات للاجئين لا تصلح حتى للفئران.. عن تركه دون حدود أو وطن أو دولة، وفي الوقت الذي أدار العالم فيه ظهره ليشاهد أو يهتف لابتهاج المغتصبين، وهم يعلنون دولة جديدة اسمها إسرائيل”.

والكاتبة التي تنتمي بدورها لعائلة فلسطينية أجبرتها المأساة كغيرها من العائلات على الابتعاد عن وطنها فانتقلت للعيش لدى عدد من عائلات أقربائها، وفي أمكنة مختلفة ثم تستقر نهائياً في أمريكا وتستكمل دراستها في العلوم الطبية وتعمل لاحقاً في الصحافة والكتابة وفي مجال الأعمال الإنسانية، فأسست منظمة “ملاعب من أجل فلسطين” للدفاع عن الأطفال الفلسطينيين، وهي بهذا تتماهى أو أنها تتوارى خلف آمال بطلة الرواية الرئيسية إذ هي صورتها في الحقيقة، ما يجعل الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية المروية على لسان آمال:

“قال لي والدي ذات مرة: لقد سميناك آمال بالألف الممدودة؛ لأن الاسم بالهمزة يعني أملاً واحداً فقط، أمنية واحدة، أنت أكثر من ذلك بكثير، وضعنا كل آمالنا فيك، آمال بالألف الممدودة تعني: الآمال، الأحلام، كثيراً منها”.

أجيال ومصائر

تبدأ الكاتبة أحداث روايتها في “عين حوض” في ثلاثينيات القرن الماضي أوان كانت المنطقة تشهد بدايات المجموعات اليهودية القادمة والتي بدأت تتزايد وتقيم على مضض من أبناء المنطقة: “في قديم الزمان، قبل أن يخطو التاريخ فوق التلال مبعثراً الحاضر والمستقبل، قبل أن تمسك الريح بالأرض وتهزها نازعة اسمها وطابعها، قبل أن تولد آمال، وجدت قرية صغيرة شرقي حيفا عاشت بهدوء على التين والزيتون على الحدود المفتوحة وأشعة الشمس”. هناك حيث تقيم عائلة “يحيى أبو الهيجا” الذي يعتبر من الملّاك وأصحاب الأراضي الخيرة، والتي ستتيح عملية نقل خيراتها إلى القدس نشوء صداقة بين حسن الابن الأكبر ليحيى وآري بيرلشتاين ابن أستاذ ألماني فر من نير النازية إلى فلسطين وأقام فيها، إلا أن الأمر لن يطول فهو سيغادر قبل سواه خوفاً من القادم المجهول: “الوضع سيئٌ جدًّا يا حسن، لدى الصّهاينة كمّيّاتٌ كبيرة من الأسلحة. لقد جندوا جيشا هائلاً من اليهود، الذين يصلون على متن السفن كل يوم.. لديهم عربات مدرعة بل طائرات.. سوف يستولون على الأراضي، لقد شنوا في جميع أنحاء العالم حملة تدعو فلسطين أرضاً بلا شعب.. سوف يجعلونها وطناً قومياً لليهود.” هذا ما قاله لصديقه حسن قبل أن يرحل.

يكبر الأبناء ويتزوج حسن لينجب ليحيى حفيدين “يوسف” و”إسماعيل” بندبة تميز وجهه، في الفترة التي بدأت القوات البريطانية انسحابها من فلسطين لتحل محلها عصابات اليهود التي أمطرت القرية الصغيرة قنابل وأمعنت بأهلها قتلاً وتهجيراً يصاب العم درويش بالشلل نتيجة إصابته، وفي زحمة طريق اللجوء تفقد الأم صغيرها “إسماعيل” لتبدأ رحلة الهذيان وفقدان الاتزان، وبينما يعمل الأب على بناء أسرته من جديد وتأمين عيشها من عمله في التعليم سيرزق بآمال التي أخذت عنه حب العلم، هناك لن يزيد النزوح العائلة إلا تمسكاً بإنسانيتهم وبأرضهم، الأمر الذي كان يدفع بالجد للتسلل أكثر من مرة إلى أرضه في “عين حوض” حيث يعود محملاً بثمارها إلا أنه سيرجع في إحداها جثة في إشارة إلى موت الحلم والأمل بالعودة إلى القرية، تكبر الفتاة وتكبر النكبة وتطيح حرب 1967 بأحلام الجميع في العودة، يشب يوسف ويشارك في المواجهات مع العدو الأمر الذي سيضعه وجهاً لوجه مع أخيه “إسماعيل/ديفيد” الذي بات واحداً من عناصر جيش العدو، سيتعرف عليه من خلال الندبة التي تميزه، تنتقل آمال إلى الأردن للدراسة وينخرط يوسف في المقاومة أكثر وأكثر، ولن يلتقي شقيقته إلا في لبنان في مخيم شاتيلا مع زوجته، وهناك سيكون موعد بطلة الرواية مع الحب والزواج والإنجاب، وهي حين ترحل وسارة ابنتها إلى أميركا لترتيب ظروف استقرار أخير لها ولأخيها سيكون المخيم على موعد مع الدم والمجزرة التي أفقدتها زوجها، بينما يتعرف يوسف على زوجته واحدة من الضحايا مبقورة البطن من خلال صور المجزرة، تتشابك في صدره كل الانفعالات الإنسانية من ظلم وقهر وتوق للانتقام فيكون أحد المشاركين في تفجير السفارة الأميركية في بيروت، لتدخل آمال في دوامة الاتهام والشك واليأس من عودة كانت ترسم ملامحها في أحلامها، لتبقى سارة أملها الوحيد الباقي.

الرواية المترجمة عن النص الأصلي بالانكليزية وتحت عنوان “صباحات في جنين” تمتعت بأبعاد إنسانية هامة بحكايتها المؤثرة عن الأجيال المتعاقبة لأبناء فلسطين، واستعرضت تواريخ وإشارات تاريخية عديدة منها محاولات “ترومان” انتزاع الاعتراف بدولة العدو، وتغيير اسم فلسطين إلى إسرائيل بعد خروج القوات البريطانية، وأعمال الطمس التاريخي والجغرافي الممنهج الذي مارسه الاحتلال منذ البداية والقرى التي سويت بالأرض على يد جنوده، وعمليات الاغتيال التي طالت الوسطاء العاملين على تقديم الحلول من بينهم الكونت السويدي “فولك برنادوت” في العام 1948، وتمر على الصراع المستمر وأعمال المقاومة منذ البداية وصولاً إلى العام 2003، مستعينة ببعض الوثائق والصحف وكتابات الصحفيين وبعضاً من نصوص كتاب وشعراء كجبران خليل جبران ومحمود درويش.

تقاطع وإشارات

وتتقاطع مع قصة غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” حول الطفل الذي عثرت عليه عائلة يهودية في أحد المنازل المستولى عليها، وكانت صرحت في أحد حواراتها في نهاية الكتاب أنها كانت ملهمتها للبدء بكتابة روايتها.

في الرواية عديد من الإشارات والرسائل قد نتفق معها أو أننا لا نفعل، اللقاء الفاتر مع شقيقها “إسماعيل/ديفيد” هل هو دليل على استحالة إعادة الروابط ما بين الطرفين، بينما أعطته صفة الضحية وبررت تعذيبه ليوسف بأنه هو الآخر نتاج ثقافة المحتل، فهو بعد أن استشهدت “آمال” في جنين: “قتلت وهي تحمي ابنتها، هذه المرأة كانت نجت من رصاصة إسرائيلية في صباها، وماتت بالرصاصة التي استهدفت ابنتها” بكى في صمت ووقف برزانة معذبة إلى جانب جسد شقيقته وهو: “على الرغم من أنه لم يصدر أي صوت، فقد كانت قوة حزنه الشديد تحوم حول القبور كمطر لا يستطيع الهطل”. لابد للمرء أن يعود إلى الجذور، لا بد للإنسانية أن تستعيد ذاتها.

رغم ذلك تنتهي بروايتها إلى أن يكون منزلها في أميركا جامعاً للأضدّاد الثلاثة “سارة الأميركية ومنصور الفلسطيني، ويعقوب ابن خالها الإسرائيلي” فهل وصلت الرسالة؟!.

بشرى الحكيم