أيام التشكيل السوري في اللاذقية
هو البحر بتأثيراته كان حاضرا فخلف سكونه المشبع بالغموض بركان لوحة ثائر.. كانت الدعوة مفتوحة لثلاثة معارض وافتتاحات متعاقبة وكانت الطريق إليها كما زخ حروفي الخجولة والعجولة، وكان لذاك الرزاز فعله المضاف فلطالما استقبله الجسد وعانقته الروح، ولطالما كان بلسماً للجروح وحين تفعل البيئة فعلتها ستنشر على قماش اللوحة بقعتها، فللبحر أثرٌ باطن وظاهر والتأثيرات غير المباشرة هي الأكثر مصداقية، وهذا ما يجعلني أجزم بأن الغموض المشبع والتعبيرات الصارخة تصير في التشكيل الساحلي سمةً أساسية، ولندخل في الصلب أقول أمام تلك الاتهامات العشوائية لثقافة المتلقي: سنواجه اتهاماً بتقصير ما يتعلق بالقدرات التواصلية، فأهم ما افتقدته المعارض الثلاثة التي أنا بصددها هو المحاضرات المرافقة والندوات لتسير وفق اتجاهين وهدفين أحدهما بمثابة دراسة ونقد تخصصي لأعمال الفنان، والآخر يسير ويساير ثقافة النخبة من المهتمين فلا يمكن أن نبقى بالغربة والعزلة محكومين.
أما بعد.. أوجز حديثي عن أيام الفن التشكيلي معتذراً كوني لم أتطرق إلى الأسماء ولا يخفى على البعض ما قد يسببه حصرها ضمن المعارض الثلاثة من عناء يختتم عام 2018 نشاطاته بتظاهرة تشكيلية تمتد إلى جميع المحافظات السورية، لتصل إلى اللاذقية عاصمة التشكيل التي تتألق من خلال معرض يتواصل عبر الزمان والمكان فتصير البداية في الثاني عشر من الشهر الأخير وضمن صالة الباسل التابعة للاتحاد والمنزوية جنوب مركز المدينة وفي الشارع الأكثر هدوءاً وامتداداً (شارع بور سعيد) ومع معرض ضم غالبية الفنانين الأعضاء والمواظبين لنشاطاتها الحثيثة ومنها تلك التي صارت تقليداً سنوياً كمعارض الربيع والخريف لتثبت حضورها كل عام أجمل من سابقه، وتلفتنا في هذا العام تلك التراتبية التي اختصرت المشهد الكلي إلى لوحة متجانسة رغم التنوع والاختلاف الذي يفرضه النهج المتبع بحيث تصير المشاركة مفتوحةً للجميع، بمن فيهم الأعضاء الجدد الذين غالباً ما يسيطر عليهم النهج الأكاديمي، أو أولئك الذين ينحون باتجاه الشاعرية لتسيطر الفكرة على أعمالهم وهذا لا ينفي وجود أعمال تؤكد حضورها عبر ملامح ترسم خطاها المستقبلية، حين يصير التجريب المتواصل مع متابعة حثيثة ومراقبة للذات هو الكفيل بصيرورتها لتتحقق البصمة الخاصة للفنان.
وأدرج هنا تسلسلية العرض بدءاً من الأعمال الصغيرة والمؤطرة بالزجاج إلى أعمال البورتريه ثم المشغولة بحس أكاديمي تليها الواقعية الراصدة لنشاطات الحياة اليومية وللعادات التراثية ثم الأعمال الانطباعية والطباعية، كما تتواصل تلك الغنائية التشكيلة مع معرض آخر (سورية الأم) يقام في مكان أكثر شعبية ضمن صالة تحقق حضورها وتواصلها مع شرائح مختلفة بحكم كونها صالةً ومقهىً في آن، وبحكم سعيها الجدي لتوثيق الروابط بين كل الجهات، وبينها وبين الفنان وتأتي أهميتها هنا في قدرتها على زيادة النخب ونشر الثقافة البصرية المسؤولة، وفي تلك الصالة ومعرضها (صالة هيشون) كان للأنثى حضورها الأكثر وضوحاً عبر الأساليب المختلفة للفنانين ابتداءً من الكلاسيكية التقليدية والأعمال الأكاديمية إلى التعبيرية والتعبيرية الصارخة والجريئة، ثم التجريد الكلي والجزئي إضافة إلى أعمال الغرافيك والحفر على المعدن.
وتختتم هذه التظاهرة ضمن صالة كانت ولا زالت تصر على حضورها الأنيق عبر معارضها التي أقامتها منذ افتتاحها وصولاً إلى عرضها الحالي الذي ضم أهم وأحدث نتاجات المشاركين التي تتوزع على جدران لها خصوصية الحكمية ليعكس المعرض (بحرٌ ما) هذا التميز بالمجمل عبر لوحاتٍ عكست تقنيات ووسائل وأدوات مختلفة تفرض خصوصيتها لتتنوع الأساليب، وتعكس حساً أكثر انتظاماً حيناً وأكثر انفلاتاً في كثير من الأحيان، تبعاً لطبيعة الفنان ومشاربه المختلفة الطبيعة والبحر والتكوينات الإنسانية والمدينة فكانت أساليب التعبير غير مباشرة، بمعنى استحضار الذاكرة الأكثر مصداقية كونها تحتفظ بالصور الأكثر تأثيراً وجمالاً من تجريدات الرماد إلى الملامح التعبيرية والتجريدية التي تلخص الآثار الجسدية والنفسية التي خلفتها الحرب، إلى أعمال النحت التي تعكس ذاك الإحساس العالي بدفء وحنين المادة المستخدمة ومطواعيتها إلى أن يبدو هذا الأمر في النهاية كما سباق محكم الأخوة والترابط ما بين الصالات والفنانين، وما بين الفنان وذاته الموزعة في ثلاثة أماكن.
وأخيرا أقول للعمل الإبداعي تلك القدرة على الإدهاش بقدر تجدده وتمرده وغموضه فهو القادر على الدفاع عن ذاته وتأكيد مبررات حياته ووجوده، فهو عمل يضع المتلقي في خضم المواجهة ليكتشف عمق رؤاه وتحليلاته، وهو في سياق الأسلوبية لا ينتمي للاستسهال والتكرار، ذلك الفخ الذي أوقع في بوتقته كثيراً من الفنانين فصارت حروفهم مكشوفة والطريق إلى لوحتهم معروفة.
وأختم بالقول: “ربما قتلت الكلمات التي نطلقها في صمتنا زهرة ولكنها قد تنعش في محيطنا فكرة، أما الكلمات المستهلكة والمعادة فهي تواصل قتلنا بغير إفادة، وعلى الأرض لا تزرع سوى الأشواك واليباس مهما حاول تجميلها الناس”.
حسين صقور