ترامب.. وكذبة الانسحاب
أكثر ما يقلق من قرار انسحاب القوات الأمريكية من سورية أن تكون المسألة برمتها كذبة جديدة، الغاية منها تبديل القاتل والمدمر بآخر، ولعبة كراسٍ متحرّكة، وتبادل للأدوار بين تحالف العدوان، وهو ما أوضحه تصعيد اللهجة التركية لجهة شن حرب في شرق الفرات بذريعة حماية “الأمن القومي”، وهو ما لا يعدو في حقيقة الأمر كونه تصفية حسابات مع عدو كان حتى أمد قريب منفذاً لأجنداتها، وتدخلاً سافراً في شؤون دولة ذات سيادة.
ربط ترامب قرار انسحابه بقضاء قواته على “داعش”، رغم دراية العالم بأن التنظيم التكفيري من صنع الإدارات الأمريكية، والتي شكّلت على مدار السنوات السبع الماضية الغطاء لممارساته الإجرامية ومساعداً لها في سرقة النفط السوري وبيعه في الأسواق التركية والأوروبية، بل إن التحالف الاستعراضي ارتكب مجازر بحق السوريين، ودمّر أكثر بعشرات الأضعاف مما ارتكبته عصابات القتل الجوال في المناطق التي وطأتها، ما يعني أن الدور الأمريكي جاء متمماً لدور المجموعات الإرهابية في المخطط المرسوم بعناية فائقة، وهذا ما يجعلنا نخشى أن تكون المسرحية برمتها إخلاء الساحة للنظام الإخواني التركي ليتابع ما بدأه التكفيري والأمريكي، وبالتالي تصبح المنطقة مفتوحة على مواجهات شرسة لنظام طوراني دموي يحمل رئيسه فكراً إلغائياً ضد كل من لا يسير بما يتوافق مع شهواته ورغباته.
وحده النظام التركي من حلفاء أمريكا صمت حتى الآن، ولم يدل بأي تعليق على سحب القوات الأمريكية، حيث إن فرنسا وبريطانيا وألمانيا ليسوا راضين عن قرار ترامب، وعللوا عدم رضاهم بعدة اتجاهات، فمنهم من يرى أن “داعش” لم ينته بعد، ولذلك قررت باريس الإبقاء على قواتها الموجودة في سورية، ولم تخف بريطانيا قلقها من صفقة أمريكية تركية جرت وراء الكواليس لإطلاق يد أردوغان عبر إعطائه الضوء الأخضر لقتال من يعتبرهم أعداءه، الذين هم بالأساس مرتزقة واشنطن في الداخل السوري، فيما اعتبرت ألمانيا الانسحاب الأمريكي ضاراً بما تحقق حتى الآن، وهي جملة حمّالة أوجه، لكن ما تعنيه برلين بالضبط هو أن واشنطن لم تف بعهودها لجهة إعطائها حصة من الكعكة السورية، التي باتت بعيدة المنال عن الجميع، بما فيهم أمريكا.
التجارب السابقة مع الولايات المتحدة في منطقتنا والعالم تؤكد بأنها فشلت في حروبها الأخيرة، وهي تفشل اليوم في تحقيق أهداف أرادتها في سورية، لكنها تعمل بكل قواها لعدم الخروج بهيئة المهزوم، وهي قادرة على ذلك بفعل قوتها العسكرية الكاسحة، وأساطيلها المنتشرة حول العالم، وأذرعها الطويلة في المنظمات الدولية، واختيارها لرؤساء أنظمة تتناسب ومتطلبات المرحلة، وفرضها أتاوات على الدول الواقعة تحت حمايتها، وخاصة في الخليج، لتجنب الخسارة المالية التي تقع على رأس أولويات ترامب، وبالتالي وقع الاختيار على أردوغان لاستكمال المخطط المرسوم انطلاقاً من دراية الإدارة الأمريكية بأطماع رئيس النظام التركي الشخصية، والتي يمكن أن تدق المسمار الأخير في نعش نظامه في حال أقدم على خطوة مجنونة، وشن عدوان على الأراضي السورية.
وسط هذه الأجواء الضبابية، فإن موقف الدولة السورية واضح وصريح منذ اندلاع الحرب ممن عبروا حدودها بصورة غير شرعية، سواء كان دولة أو مرتزقاً، وسيتم التعامل معه على أنه عدو، مهما كان اللبوس الذي يرتديه، وهي عازمة على قتاله وإخراجه وفق ما تقتضيه الأولويات، وما يبعث على الاطمئنان أن شعبنا في كل المناطق التي تسلل إليها محور الحرب مدرك لحجم المؤامرة، وهذا ما شاهدناه بالأمس بأم العين عندما هبّ أهلنا في الحسكة والقامشلي والبوكمال للتنديد بتهديدات أردوغان، وتأكيدهم وقوفهم إلى جانب الجيش والقائد في مواجهة الهجمة حتى النهاية.
وعليه فإنه عندما يكون الشعب متماهياً مع جيشه وقيادته السياسية، فهو حتماً قادر على مواجهة العاصفة مهما تعدّدت أساليب الأعداء، وتبدلت ألوانهم، وبالتالي أياً كانت الأسباب الحقيقية من وراء سحب القوات الأمريكية، فإن ذلك لن يغيّر في المعادلة السورية شيئاً طالما أنه ليس أمام شعبنا من خيارات سوى الانتصار مهما بلغ حجم التحديات.
عماد سالم