“لم تمنع الثقافة أحداً أن يصبح وغداً”.. حوار مع الفيلسوف الفرنسي لوك فِري
ترجمة: ليلى الصواف
حطَّم النازيون، بالأمس، والإسلامويون اليوم القناعة الموروثة من عصر التنوير بأن تطور الحضارة والمعارف سيجر معه بالضرورة تطور الأخلاق. انطلق الفيلسوف والوزير السابق من انهيار هذا الوهم ليدافع عن مبدأ تربية تقوم على الحرية في الوقت الذي تحدِث فيه التكنولوجيا الحديثة بلبلة كبيرة في حقل الأشياء الممكنة.
هل تجعلنا التربية أشخاصاً أفضل ؟
لا، لم تمنع الثقافة أحداً أن يصبح وغداً. والاقتناع ببلوغ الجنس البشري الكمال بفضل التربية هو أكبر أوهام عصر التنوير. لقد علمتنا النازية وبعدها الإسلامويون أن الإنسان يمكن أن يكون مثقفاً وينجرف وراء الحقد، والعنصرية، والعنف. بالنسبة لي كان هايدجر كبر فلاسفة القرن العشرين، ومع ذلك، فقد كان هتلرياً ومعادياً للسامية. كانت ألمانيا البلد الأكثر ثقافة في سنوات 1930، وكانت تتمتع بأكثر نظام مدرسي وجامعي تطوراً في العالم، ومع ذلك فقد دخلت بكليتها في البربرية دون أن يثير ذلك مقاومة تذكر من قبل القسم الأكبر من نخبها المثقفة… “أسوأ أنواع الفساد فساد الجيدين”. الشيء نفسه بالنسبة للإسلاموية. كان بن لادن كل شيء ولكنه لم يكن جاهلاً. في عام 1985، التقيت بالقادة الرئيسيين في الجبهة الإسلامية للخلاص في الجزائر، وكانوا جميعهم خريجي جامعات مرموقة. كان أكبر وهم ورثناه من عصر التنوير الاعتقاد أن تطور الحضارات يترافق مع تطور الأخلاق. لا تتعلق التربية الأخلاقية بالتربية الفكرية، ولا بالثقافة. كان اكتشاف هذا الانفصال أكبر انهيار للأوهام في النصف الثاني من القرن العشرين. وأخشى أننا لم ندرك حجمه بعد.
في الواقع، مازلنا نعتمد على التربية لمواجهة الشر. الأصولية، والتمييز على أساس الجنس، والتمييز العنصري، والخوف من المثلية الجنسية… ما أن تظهر أي مشكلة في المجتمع حتى نكلف المدرسة بمعالجتها.
هذا ما كان صديقي جاك جويَّار يسميه “كله على المدرسة”، كما نقول عادة “كبش الفداء”. إننا نحمل المدرسة عبء الكفاح ضد كل أوجاع المرحلة. وهذا ناجم عن نقص في التأمل بالاختلاف بين الذكاء والأخلاقيات. “أن تفتح مدرسة يعني أن تغلق سجناً” غالباً ما ننسب هذه العبارة إلى فِكتور هوغو مع أنه لم يتلفظ بها، والصحيح أن الفكرة ألهمت خطاباته في المجلس. ومازالت باقية وبشدة في أذهان سياسيينا حتى هذا اليوم. وللأسف هي فكرة خاطئة.
إذاً، ماذا يمكن أن تكون غاية التربية؟
بداية، دعونا نميز بين التربية والتعليم. فالتعليم يقوم به معلمون، في مكان عام، أي المدرسة، للتلاميذ. أما التربية فيقدمها الأهل لأطفالهم، في نطاق الأسرة الخاص. عندما كنت وزيراً كنت أدافع عن فكرة أن التربية يجب، قطعاً، أن تسبق التعليم الذي سيصبح مستحيلاً بدونها. تكمن أزمة التعليم في كون المدرسين يجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع جمهور من الأطفال “سيئو التربية”. كما لم يعد توزيع الأدوار بين الأهل والمدرسين فاعلاً.
هل تلمحون إلى أن الأهل تخلوا عن تربية أطفالهم؟
لا. في الغالب يقوم الأهل بما يقدرون عليه، إلا أنهم يعانون أكثر فأكثر في تربية أطفالهم. والسبب في ذلك أن للمجتمع الاستهلاكي، أساساً، نفس بنية الإدمان: على غرار مدمن المخدرات الذي لا يملك إلا زيادة حجم الجرعات وتقريبها، يقع المستهلك في فخ “أكثر أيضاً”. وهو ما كان الفيلسوف الأمريكي هِربرت ماركوز (1898 – 1979) يسميه “غياب التسامي القمعي”: يجب تفكيك القيم التقليدية وتركنا نحن وأطفالنا نهباً لاستهلاك بلا حدود ولا نهاية. إذاً، تأثير القيم التقليدية، إذا لم نقل هدفها، موازنة الرغبة بفضل سيرورة التسامي. لا شك أن الرأسمالية تقف وراء التفكيك الكبير للقيم التي طبعت القرن العشرين بطابعها: يجب، بأي ثمن، تسليم الأفراد إلى عالم نُزِع منه كل ما يمكن أن يفرمل الوصول إلى المتع. كثيراً ما أسيء فهم نقدي الكبير لأحداث أيار 68 (1). في الواقع، بدت لي هذه الحركة بمجملها، كثورة سياسية، وكأنها نقطة وصول هذا المنطق الرأسمالي القائل بالتفكيك في كل الاتجاهات. “تحت البلاط الشاطئ” (2). إذاً، خلف الخطابات الثورية يختبئ الاستهلاك اللامحدود. لم يتخلَ الأهل عن تربية أولادهم، لكن المجتمع بأكمله جعل التربية مليئة بإشكاليات لا تنتهي، كي لا نقول جعلها مستحيلة.
أيضاً، ألم يصبح الحب أقل قيمة، لدى العائلات، من القانون كما ذكرتم في كتابكم (ثورة الحب)؟
بالتأكيد، ولكن الحب، لا يتحمل مسؤولية تفكيك القيم التقليدية، بل هو الوسيط الذي نأمل الوصول، من خلاله، إلى قيم قوية. بفضل حبهم لأبنائهم يفهم الأهل أن التفكيك لا يعود دوماً بالفائدة، بل إنه بعيد عنها كل البعد ! وأن أفضل خدمة يقدمونها لهم هي أن ينقلوا إليهم قيماً ثابتة.
نعود إلى أهداف التربية. ما هي هذه الأهداف ؟
منذ عقود تتواجه في الغرب رؤيتان حول التربية: واحدة تسعى للتربية والأخرى للازدهار. منذ “رسالة إلى المربين” التي وضعها جيل فِري عام 1883، اعتبرت المدرسة الجمهورية مهمتها الأولى تنشئة الأطفال. كان الأمر يقوم على جعل التلميذ إنساناً آخر غير الذي كان عليه في البداية وذلك عبر تمكينه من الوصول إلى المعارف، وأمهات الكتب. اعتباراً من سنوات 1960، أعطى “التجديد التربوي” الأولوية للازدهار على التنشئة. نال التحفيز: “كن أنت نفسك !” الموروث من نيتشة وفرويد، الأفضلية على “كن شخصاً آخر غير الذي كنته”. وهذا هو أصل الصراع الشهير بين “المربين” و “الجمهوريين”. لا أعتقد أنه كان يجب الاختيار بين الاثنين. بل مفصلتهما. كما كان على المدرسة أن تعمل أكثر على تنشئة التلاميذ وتعليمهم، في حين تقوم العائلة بتربية الأطفال ومنح الأولوية لازدهارهم.
غالباً ما يُربط التعليم بالتربية Paideia كما تحدث عنها أرسطو. تقولون، عكس ذلك، أن المعاصرين لم يعودوا يأخذون بهذا التقليد.
إنها حقيقة قاطعة. يرى أرسطو أن دور التربية هو الانتقال من الديناميكي إلى الطاقي وتفعيل قدرات الطفل الكامنة. إلا أنه لن يمكننا الذهاب بعيداً بعد تفعيل هذه الاستعدادات. لأن مهمة التربية تكون قد انتهت. نضيف أن التربية لدى الطبقة الأرستقراطية الإغريقية كانت تهدف في البداية إلى تفعيل قدرات التلاميذ الأفضل. إنها تربية أرستقراطية ومحدودة بالزمن في الوقت نفسه. ظهرت مع بيك دو لاميراندول وروسو فكرة الكمالية. لسنا كائنات تعيش على سجيتها، نحن كائنات حرة واصطناعية تتصف بتطور يحتمل أن يكون لا منتهي، الأمر الذي يفتح منظور تربية ديمقراطية تمتد على طول الحياة.
ألا ينقسم المعاصرون بين التربية الحساسة والنشيطة التي دافع عنها روسو وبين طريقة التربية بالانضباط التي دافع عنها كانط ؟ انقسام يمكن أن نراه اليوم بين مؤيدي الطرائق المسماة نشيطة والمدافعون عن الأساسيات…
لا أعتقد ذلك. كان كانط مبهوراً بـ إيميل. والأمر يتعلق بالنسبة له، كما هو بالنسبة لروسو، بتطوير التربية عبر الأشياء أكثر من تطويرها عبر الأشخاص. ماذا يعني هذا ؟ في كتابه (تأملات في التربية)، يبين كانط أن هناك ثلاثة أنواع من التربية تتناسب مع ثلاثة نماذج سياسية : التربية من خلال اللعب، وهي تعبير مجازي عن الأناركية أو الفوضوية؛ والتربية من خلال الإخضاع، وهي تعبير مجازي عن الإستبداد؛ وأخيراً، التربية من خلال العمل، النشيطة والسلبية، وهي تعبير مجازي عن الفكرة الجمهورية، حيث يذهب الطفل للتعلم عبر اجتياز العقبات، و”المشاكل” المعروفة. ودور المعلم أن يضع أمامه العقبة المناسبة حسب سنِّه ومستواه. من هنا ولِدت الطرائق النشيطة التي تشكل امتداداً لنظرية القانون التي وضعها روسو، حيث يكون المواطن فاعل وذو سيادة عند التصويت على القانون، وتابعاً وسلبياً عندما يطيعه. على غرار المواطن، يجب أن يكون الطفل سيداً وتابعاً في العمل. بهذا المعنى، هناك تناظر كامل بين الفكرة الجمهورية وبين الطرائق النشيطة وإضفاء القيمة على العمل.
تهتمون بالاضطرابات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. كيف سيغير هذا الأخير التربية ؟
يطرح علينا الذكاء الاصطناعي سؤالاً حاسماً: نحو أي مهنة نوجه أطفالنا ؟ يفرض الجواب نفسه: نحو المهن التي لن يستطيع الذكاء الاصطناعي جعلها متاحة للجميع، أي المهن التي تُشرك الرأس والقلب واليد والذكاء والعلاقات الإنسانية والمعرفة. وكي أصوغها بشكل أفضل: سيختفي الطبيب المختص في مجال طبي ما قبل اختفاء الطبيب العام، وهذا الأخير سيختفي قبل اختفاء الممرضة. سيقلب هذا التحول التكنولوجي وجودنا رأساً على عقب خلال الثلاثين سنة القادمة أكثر مما انقلب في الثلاثة آلاف سنة الماضية. وسيكون التحدي، على صعيد التربية، هو تهيئة أطفالنا لما هو آتٍ وليس تكييفهم مع العالم الحالي.
تدعي الثورة التقنية أنها ستجعلنا أفضل. إلا أنكم تميزون بين طريقين في التحسين مختلفين جداً، الطريقة بعد الإنسانوية والطريقة عبر الإنسانوية. ما الفرق بينهما ؟
تقوم الطريقة بعد الإنسانوية على قناعة، تدافع عنها جامعة التفرُّد الممولة من غوغل، أنه يمكن الوصول ذات يوم إلى تصنيع وصلات عصبية على أساس غير بيولوجي فلنقل من السيليكون وليس من الكربون. هكذا سنكون قد صنعنا كائناً قادراً على التفكير وليس على إجراء العمليات الحسابية فقط. وهذا ما نسميه الذكاء الاصطناعي القوي. إذا استطعنا الوصول إلى ذلك فستكون الإنسانية قد خطت خطوة كبيرة ، كما يقول ستيفن هوكينز، لكنها ستكون الخطوة الأخيرة، لأننا سنكون قد صنعنا كائناً داروينياً لن يلبث أن يسرع لمحونا. لا أحد يعرف إذا كان هذا السيناريو موثوقاً. الطريقة عبر الإنسانوية شيء آخر. إنها تقوم على فكرة أقل شطحاً مفادها أنه يمكن توسيع الكمال ليشمل الجسم الطبيعي: يتعلق الأمر هنا بإطالة الحياة حتى تستطيع الإنسانية الجمع بين الخبرة الناجمة عن التقدم في السن، وحماسة الشباب. ماذا لو تمتع الشباب بمعرفة العجائز والعجائز بقوة الشباب ؟ لا علاقة بين الطريقة عبر الإنسانوية وبين علم تحسين النسل النازي.
في مواجهة الحلم عبر الإنسانوي، يعترض جيرغن هابِرما قائلاً أن جعل أطفالنا “أفضل” عبر تزويدهم، ساعة ولادتهم، وبفضل التكنولوجيا الحيوية، بمهارات بدنية أو عقلية أعلى، سيسيء إلى تصورهم لمعنى كونهم أحراراً، وما الذي يريدون فعله بوجودهم. هل توافقون…
في الواقع، يتحدث هابِرماس وكأننا لا نمارس أي تأثير على أطفالنا من خلال التربية، أو كأن هذا التأثير سطحي المفاعيل على حيويتهم. التربية التي أمنحها لأطفالي، والخيارات الاجتماعية التي أقوم بها من أجلهم، لغتهم الأم، ووسطهم الاجتماعي، إلخ. تترك بصمة بنفس قوة بصمة الطبيعة. تمارس الحرية، دائماً، قياساً إلى موقف تاريخي وبيولوجي ورثناه والاعتقاد أن البيولوجي “أقوى” من التاريخي هو سذاجة نادرة.
ربما يكون إرسال الأطفال إلى مدرسة مرموقة ذو أثر غير رجعي أقل من زرع شريحة تزيد قدرة ذاكرتهم…
في الحالتين الأثر غير رجعي. ساد الاعتقاد أن كل ما هو تاريخي أو ثقافي له أثر رجعي. خطأ. لا يقل تأثير التاريخ في ديمومته عن أثر الطبيعة. في الحالتين، هي مواقف نمارس حريتنا قياساً عليها. أما عن البقية، فما لا يفهمه هابِرماس: ما أن تُفتح إمكانية التعديل البيولوجي، سيكون عدم القيام به خياراً يتساوى عبء اتخاذه مع عدمه. لنتخيل أني اخترت عدم تعديل جينات طفلي لأن ديانتي تمنع ذلك، وأنه وُلِد بإعاقة كان يمكنني تجنيبه إياها، سيكون اختياري عدم التدخل مصيرياً مثل قرار التدخل. وفي جميع الحالات فأنا مسؤول…
يبقى أن البعض سيكونون قادرين أكثر من غيرهم على الوصول إلى التحسينات بحسب إمكاناتهم…
هذه أيضاً فكرة خاطئة جداً. استمر أول تسلسل للجينات البشرية ثلاثة عشر عاماً وكلف ثلاثة مليارات دولار. أما اليوم فتكلف سلسلة كتلك التي أجرتها أنجيلينا جولي لمعرفة مدى استعدادها للإصابة بسرطان الصدر قرابة 300 دولار. تندرج إتاحة التقنيات الحيوية للعموم ضمن منطق هذه الثورة.
نستنتج من كلامكم أن الطب لا التربية هو الذي يتكفل بالتطور ؟
أبداً ! نحن كائنات حرة، وبالتالي كائنات قادرة على الكره والأنانية كقدرتها على الحب والكرم. ولن تغير تطورات الطب شيئاً في هذا. الشيء الوحيد الذي يستطيع الطب عبر الإنسانوي تقديمه لنا هو إمكانية العيش أطول كي تمكننا الخبرة أن نكون أقل غباءً. هرب والدي أربع مرات من معسكرات النازية التي عاش فيها الرعب الحقيقي، وكان كثيراً ما يقول لي لو أن الحرب كانت مسموحة لمن هم في سن 65 فقط، لما كان هناك الكثير من الحروب. قد يتيح العيش أطول وجود إنسانية أعقل، ولكن، ما من شيء مضمون.
< لوك فِري فيلسوف فرنسي شغل منصب وزير التربية الوطنية؛ من مؤلفاته: أجمل قصة مدرسية (بالتشارك مع آلان بواسينو وروبير لافون، 2017)، وسياسة وفلسفة التربية (كتاب صوتي في قرصين مدمجين، صادر عن فرِمو وشركاه، 2015). اهتم في كتابه الثورة عبر الإنسانوية (بلون ، 2016) بإمكانية “زيادة” قدرات الأطفال التي تتيحها التكنولوجيا البيولوجية.
(1) – أحداث أيار 68 أو الثورة الطلابية في فرنسا. انفجرت هذه الثورة كنتيجة لتراكمات على الصعيدين السياسي والاقتصادي. اشتعلت شرارتها في باريس بين الطلاب ثم انضم إليها العمال. شكلت علامة فارقة في التاريخ الفرنسي بسبب المظاهرات والإضرابات العامة والشرسة التي اتسمت بها. (المترجمة)
(2) أحد أشهر شعارات ثورة أيار 68، ومعناه الحرفي: تحت البلاطات الشاطئ. يرجع أصله إلى قيام الطلاب الثائرين بنزع بلاط الشارع لصنع المتاريس واكتشافهم أن البلاطات موضوعة على سرير رملي فاعتبروا أن بناء المتاريس هو بداية الطريق نحو الحرية التي صار الشاطئ رمزاً لها في هذه الحال. (المترجمة)