وعد بلفور.. عام بعد المئة.. ولم تنتهِ القضية
سمير الشريف
كاتب من فلسطين
قرن من الزمان مضى على ذلك الوعد المشؤوم الذي أطلقه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور ومنح بموجبه اليهود فلسطين كوطن قومي لهم. مئة عام مرت والأيام هي الأيام يعيش فيها الفلسطيني آلامه ومعاناته التي ما زالت متواصلة.
ما أقرب الأمس من اليوم، خاصة حين يتصل هذا الأمس بما نعيشه اليوم من سياقات سياسية وفكرية تكاد تتشابه إلى درجة التطابق. نقول عنها مؤامرة، ويصفها البعض بالمشروع الشيطاني، لكن في المحصلة هي استهداف لشعب بأرضه وتاريخه ومستقبله السياسي، نعم هي مؤامرة التقت فيها المزاعم والأساطير الصهيونية مع الأطماع الصهيونية لدول الاستعمار الغربي فكان الشعب الفلسطيني هو الضحية التي دفعت ثمناً كان يمكن أن تدفعه أي دولة في المنطقة لو وقع عليها الاختيار..
مؤامرة تتكرر فصولاً مع فارق زمني بين أمس كانت أوصال الأمة فيه ممزقة بفعل استعمار كولونيالي مباشر واستعمار اقتصادي وأمني، وقد يصبح نفسياً أيضاً ومباشراً، وحاضراً تغيب فيه الإرادة العربية وتسلب شهامة لا زالت الأجيال تتغنى بها. ففي الثاني من شهر تشرين الثاني من عام ١٩١٧ وبعد مرور نحو ثلاث سنوات على الحرب العالمية الأولى التي كانت العوامل الاقتصادية أحد أسبابها والتي تمحورت حول إعادة توزيع المستعمرات بين الدول الفتية الساعية إلى التحول من دول رأسمالية صناعية إلى امبريالية ذات اقتصاد ما فوق قومي، وهنا بدأت الرواية الاستعمارية ببعديها القومي والعالمي. وهذا عائد بطبيعة الحال إلى عداء كان يتشكل في المجتمعات الأوروبية بشكل عام وفي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، والذي ترتد أسبابه كرهاً للنشاط الاقتصادي لليهود المقيمين في تلك الدول وهو بدوره أصبح يهمش دور البرجوازيات المحلية بسبب أن الرأس المال اليهودي كان في حركه دائمة بحثاً عن مجالات توظيف واستثمار في الدورات الاقتصادية لهذه البلدان التي كانت تتعثر وتنتقل من أزمة إلى أخرى لأسباب عدة، خاصة أن رأسمالية الدولة ملزمة بالتقديمات الاجتماعية للشعوب بينما الرأس المال اليهودي كان متحرراً من هذه القيود، مما أجج العداء لليهود وطرح على طاولة البحث ضرورة إيجاد حل لهذه الحالة بإخراجها من دائرة الاقتصاد. نتذكر ما ردده الرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لينكوين وما ردده أيضاً العديد من المنظرين الاقتصاديين الأوروبيين وما بينه ما قيل عن “الهولوكست والمحرقة”، بغض النظر عن دقة أرقامها إلا أنها تعكس حالة من الكره لليهود، الذين إن كان لديهم قدرات مالية عالية، لكن حياتهم كانت تشبه حياة الغجر بسبب تكرار الترحال لديهم سعياً منهم لتوظيف أكبر قدر ممكن من الأموال والاستثمار..
في هذه المرحلة بالذات بدأت بريطانيا وساستها بالتفكير الجدي بالتخلص من هذا النشاط الاقتصادي لليهود. ففي العام ١٩١٤ بدأت الحرب العالمية الأولى وخرجت الامبراطورية العثمانية منها مهزومة ، وقد كان لها دور غير مباشر في هجرة اليهود سراً في هذه الحقبة الزمنية. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى بعام، أعلن عن وعد بلفور الذي بموجبه منحت فلسطين إلى اليهود كوطن قومي لهم تحت شعار “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، وفى هذه الفكرة تقاطع وزير الخارجية البريطاني مع ما سعى إليه المحامي حايم هيرتزل فى مؤتمر بال الصهيوني في سويسرا حيث عبر من خلاله عن ضرورة تجميع اليهود في وطن قومي يؤسس عبره لبنى اقتصادية وسياسية يكون عبرها الرأسمال اليهودي طليق اليدين، علماً أن هيرتزل رغم كونه يهودياً غير متدين، لكنه وجد في اليهودية ملاذاً آمناً لأفكاره الصهيونية المتطرفة فألبسها هذا الثوب مع إدخال الروايات التلمودية لتأخذ طابع حضارة دينية كباقي الحضارات..
على هذا تقاطعت المصالح الاستعمارية الرأسمالية والفكر الصهيوني خاصة بعد التطور المطرد في الإنتاج ودخول الآلة في كافة مناحي الحياة، وبدأت أوروبا الاستعداد لدخول مرحلة الامبريالية (أعلى مراحل الرأسمالية في التنافس على المستعمرات ومناطق النفوذ) وعيونها شاخصة على الثروات النفطية والمواد الخام بهدف الإمساك بطرق الملاحة العالمية وضمان وصول النفط إليها، وبشكل مستدام دونما منافسة. وهنا بدأ المشروع الاستعماري للمنطقة بالولوج إلى حيز التنفيذ، وبدأت معه موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشكل علني وتحت حماية رماح القوات البريطانية التي كانت وظيفتها هي مساعدة الفلسطينيين وليس سرقة أرضهم وليس التآمر عليهم ومنح أرض لمجموعات بشرية جاءت من كل بقاع الأرض لتستولي عليها..
هذه التسهيلات البريطانية للمجموعات اليهودية الوافدة قابلتها عقوبات على كل من كان يسعى من الفلسطينيين لرفض هذا الواقع حيث تعرض بعضهم إلى عقوبات قاسية فرضتها قوات الانتداب البريطاني بشكل فردي وجماعي، الأمر الذي دفع بالشعب الفلسطيني إلى المقاومة والاعتراض وصولاً حتى العصيان المدني وثورة العام ١٩٣٦ التي تعتبر الأطول في التاريخ، إلا أنه بفعل موازين القوى وتكالب المشروع الاستعماري الرامي إلى إزاحة الهم اليهودي عن كاهله كانت المؤامرة تزداد ضراوة، حتى استعار الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كان يعيشها المجتمع الرأسمالي والتي ازدادت سوءاً معلنة الاستعداد للبدء بالحرب العالمية الثانية..
مع بداية الحرب العالمية الثانية والتي أفضت إلى نتائج كارثية على البشرية برمتها وأسست لنظام عالمي جديد، بعد أن خرجت منها دول منتصرة و أخرى منهزمة، كان المشروع الصهيوني يترسخ بشكل تدريجي ويأخذ تشكيلات سياسية وعسكرية اجرامية تقتل الفلسطينيين المدنيين بدعم مباشر من الانتداب البريطاني. وبعد انتهاء الحرب وانشغال الدول المتصارعة بلملمة أوضاعها وجراحها والسعي لإعادة النهوض بمجتمعاتها والبحث عن كيفية تعويض خسائرها، وانكفاء البعض الآخر بسبب هزيمته وتبلور شكل سياسي اقتصادي جديد ودخول الدول الاستعمارية عهداً جديداً من مرحلة تصنيع وسائل الإنتاج، فأصبح من الضرورات القصوى تأمين وسائل الطاقة بلا أي شراكة، مع الاحتفاظ بحق العرض والطلب والسيطرة غير المباشرة لهذه المواد التي يصفها المنظرون الاقتصاديون الأوروبيون بشريان الحياة، فيما الأعين ظلت شاخصة على فلسطين تتهيأ اللحظة المناسبة للانقضاض على الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.. فكان الخامس عشر من أيار (1948) يوماً أعلن فيه قيام “دولة إسرائيل” وهو يوم النكبة الفلسطينية والعربية الكبرى، وكان الهدف الأساس، ولا زال، نهب ثروات المنطقة وفى مقدمتها النفط والسيطرة على طرق الملاحة والمضائق المائية، وأن يكون هذا الكيان قاعدة متقدمة لحماية مشاريع الدول الاستعمارية ومنع أي دور تحرري في المنطقة وقمعه في مهده، وفي مقابل ذلك دعم خلق كيانات عربية مرتبطة كيانياً بهذا المشروع وشطر أي مشروع نهضوي عربي بل عزل مشرق الأمة عن مغربها وصولاً لكل أشكال التقاتل والفتن وضرب الدولة الوطنية..
مئة عام وعام على وعد بلفور ولا زلنا حتى الآن نعيش فصوله التي لم تنتهِ بعد. قاومناه وما زلنا في مكاننا نواصل كفلسطينيين وعرب مقاومة هذا المشروع الذي أجمعنا عليه كقوى تقدمية بأنه استهداف لكل الأمة، وأن لا نهضة لهذه الأمة إلا عبر البوابة الفلسطينية، واعتبار أن قضية فلسطين كانت ويجب أن تبقى عنوان النضال، ليس الفلسطيني والعربي وحسب، بل عنوان النضال التحرري على امتداد العالم، نظراً للأبعاد الإنسانية والأخلاقية التي تحملها هذه القضية. ولن يغير من هذا الأمر بعض ما تشهده المنطقة من إرهاصات وتراجعات، بعد تفتيت أكثر من دوله وازنة، عبر الفتن والصراعات الطائفية والمذهبية والاثنية التي لم تترك شيئاً إلا ومسته حرباً وخراباً وتدميراً، تغذي ذلك سياسات رسمية لبعض الأنظمة العربية التي لم يعد لها هم إلا النأي بنفسها بعيداً عن مصالح وتطلعات شعوبها والحفاظ على مقاليد الحكم. وقد كانت البداية مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد التي حولت نصر الجيش المصري إلى هزيمة سياسية، تلاها اتفاق أوسلو الذي ضحى بالانتفاضة الأولى التي امتدت لستة أعوام وقدم رأسها قرباناً للإدارة الأمريكية التي نجحت في جعل الحالة الرسمية الفلسطينية أسيرة مفاوضات بات الجميع يدرك أنها عنوان لاستكمال تصفية الحقوق وبأيادٍ فلسطينية في ظل تصاعد حالة التبعية العربية التي باتت تتفنن في اختراع أشكال تطبيعية لم نعهدها، منها الرياضي والاقتصادي والثقافي وغداً السياسي، وإنهاء حالة العرب مع “إسرائيل” وإعلان الاستسلام النهائي لها.