“مامو”.. قصائد الحنين والحب وشغف الأمكنة
في مجموعتها الشعرية الثانية والصادرة حديثا عن دار الشمعة في حمص، الموسومة بـ (مامو). العنوان هنا إشكالي واستفزازي، ما الذي يدفع الشاعرة التي سمت مجموعتها الأولى بـ (مرايا الروح) الذي هو بحد ذاته كعنوان على غاية من الشعرية، إلى أن تسمي مجموعتها الشعرية الثانية بعنوان: (مامو). إذا هو كعنوان قد يكون في البداية عصي على فك (شيفرته) لمن هم خارج الضالعين في عالم الميثيولوجيا والاركيولوجيا وسحر الأساطير. (مامو) تقول لنا عنه الشاعرة خديجة الحسن في الصفحة الرابعة (مامو: آلهة الأحلام عند السومريين). هي بذلك تكون قد أزاحت عن كاهل القارئ البحث والعناء في هذا العنوان اللافت والمشاكس.
حتى الإهداء نراها وبجملة قصيرة جدا أهدت مجموعتها: (إلى خالقي) ص 5. وبالعودة إلى المجموعة الشعرية سنجد أن الشاعرة قد قسمت قصائدها على امتداد مساحات من المكان مثلما تتطلبه القصيدة، فثمة قصائد طويلة وقصائد قصيرة جدا مكثفة كقصائد الومضة. نحن أمام عمل شعري لشاعرة منذ البدايات أرادت أن يكون لها صوتها الخاص، أو لنقل بوحها الشعري الذي يلامس وجدانها وروحها، تبدأ في قصيدتها الثانية المعنونة إلى الياء.
“ابكي بكلّ الدمع ابكي/ فالمطر ابتعد والزيتون يذوي/ ومساءات العيون حكايات سرقها الغريب”. ص 8.
ثم تنقلنا لقصيدة (مامو) التي حملت المجموعة اسمها، وهي من أطول قصائد المجموعة، إلى حد ما، وهي تحفر عميقا في الميثيولوجيا تقول الشاعرة:
“أعوذ بك من سطوة الغدر/ ومن ضنك الوفاء/ عمري كان اشتياقا للحظة حب تزيح عني الضياع/ أسجل في سفر الأوجاع ياشام أين بردى. أين دجلة يا عراق وأين آزال/ يصرخ بي هاجس مامو وسط قطارات تنوح/ ونسوة يلبسن السواد/ يا أنتِ انتبهي غرّبتكِ المواويل ضيّعتِ الطريق”. ص10.
يتكرر الأثر الواضح للميثولوجيا في قصائد أخرى، تكون أداة دالة على مكمن الدلالة من حيث الرمز والترميز الذي تحتاجه بعض قصائد (مامو) عنوانات قصائد الشاعرة خديجة الحسن في كليتها لافتة ومعبرة وفيها روح الشعر، على سبيل المثال (عصافير الكلام، موّال أشواق، شراع الروح، غريبان، هديل اليمام، يانسيم الريح، أتذهبين معي، سرب العصافير). مما يعني انه كان بإمكانها اختيار عنوان غير مامو. لكنها ارتأت أن يكون لها ماتريد، الحب بكل أبعاده ودلالاته ورموزه كان السمة العامة أو لنقل الهيكل العام لقصائد هذه المجموعة، وهو ما أسس حالة جمالية تضاف إلى جماليات القصائد، ثمة خيط خفي في الحزن الخصب يظهر في بعض القصائد، في قصيدة أضم الصوت تقول:
“كان المساء في طريقه للامكان/ كنت أدري ولا يدري المكان/ كنت أعلم أنّ الدمع آت/ وأنني سأحتاج عمرا لكي أنهيه/ فهل لي بتعويذة أسخرها/لأبلل هسيس هواك، وألقى وجهك”. ص22.
الحزن هنا هو ضيف خفيف الظل وهو غير سوداوي انه شفيف وخصب، يعكس روح الشاعرة، التي لم تدع المتلقي للإحباط أو الانكسار. تقول:
“فتحت شراع الروح ، وأبحرت في أفق مصمت/ كان الحزن يفرد جناحيه، يؤاخي حنين القصب/ هناك على نهر الغياب حط كوكب/ نشل الروح الكسيرة وغنّى بصوت اليمام”. ص30.
يضاف لكل هذا وذاك اشتغالات الشاعرة على نصها بكثير من الحساسية الشعرية العالية من حيث أن الشعر كائن لطيف وحميمي وشفاف، لا يقبل التحايل عليه، وإلا فإنه سيكشف صائغه على أن تبره هذا جنين مشوه وغير مرغوب فيه. اشتغالات الشاعرة خديجة الحسن على قصائدها هذه فيها الكثير من الاعتناء بالنص وبلغته وبمداليله الشعرية، ومحاولته الجادة للقبض على روح النص لتقديمه بكثير من المحبة والإخلاص لمتلقيه، ولربما هو امتحان للذاكرة وجغرافيتها من حيث البناء المكاني والزماني والأخيولي، والاقتراب أكثر من الانزياح اللغوي من دون إلحاق أي أذى ببنية القصيدة وشكلها ومقولتها. تقول:
“كلما استبدت بي الغربة. اعتليت أجنحة العشق وسريت إليها/ وعلى مفرق القلب توضأت بالندى/ وسجدت في كفّ الضباب أنا وأنت. ص37 .
سنجد في معظم القصائد الحرص على عدم المغامرة بالحبيب، من حيث هو الأب الروحي لترميز الحب، وهو بالتالي الملاذ الآمن لصنوه الآخر والشريك له في تجلياته وفي الاحتماء به حين تغدو الأيام عشا آيلا للانهدام ، ومشروع رحلة ذهاب أبدي مع الريح.
“أحتاج صوتك لأبدأ رحلتي صوبك/ أحتاجك كي أعرف أنني على صراط الحبّ أسير” ص106.
في مجموعة الشاعرة خديجة الحسن (مامو) انبثاق من كينونة شاعرية، ودليلا للاستمرار في عشق الحياة، والاحتفاء بها من حيث أنها حياة يجب أن تعاش بكل الحب.
أحمد عساف