نتانياهو يهبّ لنجدة ولي العهد السعودي
سيلفان سيبيل
مدير سابق لمجلة كوريي أنترناسيونال
رهان إسرائيلي غير مأمون. لقد حشد نتانياهو في واشنطن أعوان إسرائيل للدفاع عن ولي العهد السعودي المتهم من قبل العديدين، بمن فيهم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بقتل الصحفي جمال الخاشقجي. وقد تقضي هذه المأساة على كامل البنيان الاستراتيجي الذي وضعه بالتحالف مع المملكة الوهابية ضد إيران.
عندما وصل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الى قمة العشرين في العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيرس في 30 تشرين الثاني، تم إبلاغه بأن ثمة قاض أرجنتيني مكلف من قبل المنظمة غير الحكومية هيومن رايتس ووتش بفتح تحقيق حول مسؤوليته في اغتيال المعارض السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول وسجناء آخرين في السعودية وكذلك في جرائم الحرب التي ترتكبها السعودية في اليمن. وكان لهذا التحرك مغزى رمزي إذ لم يكن أحد يتصور إمكانية إتمام التحقيق فعلاً في غضون يومين واستدعاء الأمير لاستجوابه. إلا أنه مغزى لا يستهان به. وفِي حين يراهن كل من دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو على مرور الزمن لتنسحب القضية تدريجياً من واجهة الأحداث إلا أنهما يدركان أيضاً أن العلاقة التي عقدت مع الأمير منذ سنتين لن تكون بعد الآن كما كانت سابقاً..على الأقل لفترة من الزمن. ونتانياهو أدرى الناس بأن أي عملية سرية فاشلة إنما لها ثمن سياسي، وهو يعلم بالتالي أن محمد بن سلمان لا بد أن يدفع ثمناً سياسياً على فعلته وأن الثمن سينعكس حتماً على الحلف المعقود معه.
ثلاثي استراتيجي
لا بد أن الجانب الإسرائيلي يطرح السؤال اليوم حول مدى التأثير السلبي على الحلف الثلاثي الاستراتيجي المعقود بين الولايات المتحدة الأميريكية وحليفيها الإقليميين، إسرائيل والسعودية، والذي كان نتانياهو أشد المدافعين عنه (وهو في حقيقة الأمر حلف رباعي إذا ما أضفنا إليه الإمارات العربية المتحدة). وتتمثل مهمة هذا الحلف في ذهن نتانياهو بإعادة تركيب كاملة للجغرافية السياسية في الشرق الأوسط لصالح الحلفاء الأربعة وعلى حساب إيران وبدرجة ثانوية على حساب الفلسطينيين الذين باتوا لاعبين هامشيين على الخارطة الإقليمية.
حالما خرجت قضية الخاشقجي إلى العلن، حاول نتانياهو التخفيف من شأنها وحشد كل امكانياته في الولايات المتحدة الأميركية (سفارته في واشنطن ومننظمة الأيباك، اللوبي الموالي لإسرائيل في الكونغرس) لوضعها في خدمة ولي العهد السعودي. ولقد بذل دون ديرنير السفير الإسرائيلي كل الجهود الممكنة في هذا الاتجاه. ولم تكن الجهود كلها موفقة: حيث اصطدم داخل الحزب الجمهوري نفسه بمقاومة عنيدة من عدة أعضاء. وكما ذكر مراسل صحيفة هآرتس الإسرائيلية في الولايات المتحدة الأميركية “لقد تطوع نتانياهو ليوفر الحماية لمحمد بن سلمان في مواجهة مطالب الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء بمعاقبة ولي العهد السعودي والسعودية على جريمة قتل الخاشقجي.” ونجحت أخيراً هذه الجهود، فلقد عمد ترامب ، بعد شيء من التردد، الى إعلان دعمه للنظام السعودي وتبرير ذلك ب“ضمان مصالحنا في هذا البلد ومصالح إسرائيل وشركائنا الآخرين في المنطقة”.
مسيحيون إنجيليون في الرياض
وكان نتانياهو قد أعلن عن موقفه حال معرفة الجريمة، بقوله إنها لا شك “مريعة” ولكن “من الأهمية بمكان بالنسبة لاستقرار العالم والمنطقة أن تظل السعودية مستقرة”. ومنذ ذلك الحين لم ينكر رئيس للوزراء الإسرائيلي أنه ألح أشد الإلحاح على الرئيس الأمريكي حتى لا يتخلى عن ولي العهد السعودي. ولا شك أن مهمته هذه لم تكن عسيرة ولكن الرئيس ترامب انتظر يومين قبل أن يتبنى موقفاً مشابهاً تماماً لموقف نتانياهو. وفِي هذه الأثناء كان وفداً كبيراً من المسيحيين الإنجيليين الأمريكان قد زاروا العائلة المالكة السعودية في الرياض. وكان منظم الرحلة مواطن إسرائيلي وتعتبر صحيفة هآرتس “أن الأمر ليس محض صدفة.
ما هو سبب هذا الدعم الإسرائيلي الثابت لمحمد بن سلمان؟ لقد قام نتانياهو بعملية حسابية بسيطة ولم تعترض سبيله أي مقاومة تذكر (لا في الائتلاف الحكومي ولا في الجيش ولا في قوى الأمن). فلقد اعتبر أن المحور الاستراتيجي الذي أقامه مع السعودية لا بد من صونه مهما كان الثمن (ولقد اعتبر أن الثمن زهيد في هذه الحال). أما ترامب، فعلاوة على صونه عقود التسليح المبرمة مع السعودية، اعتبر أن دفاعه عن مصلحة إسرائيل في قضية الخاشقجي يعطي تطمينات إضافية للمسيحيين الإنجيليين في قاعدته الانتخابية، سيما إنه بحاجة لدعمهم في مواجهة المعارضة الداخلية الشديدة من الجمهوريين من أمثال ليندسي غراهام وبوب كوكر في مجلس الشيوخ، وهما صاحبا فكرة العقوبات ضد الرياض. فلقد شككت بعض الأصوات داخل الحزب الجمهوري في جدوى العلاقات مع المملكة الوهابية. ولفتت الانتباه الى كون هذا البلد قد غاب تماماً عن مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وأنه لا ينخرط بقوة في “الحرب على الإرهاب”، بل وهو يتعاون بشكل حثيث مع الطالبان في أفغانستان. وبالتالي فلقد رمت إسرائيل بكل شباكها في الولايات المتحدة الأميركية لإقناع البيت الأبيض بعدم تغيير خطه الرئيسي: الويل لإيران، وكل ما عدى ذلك تفاصيل واهية لا أهمية لها.
يعزز نتانياهو، لا شك، بتحركه هذا علاقته بإدارة ترامب، ويزيد من عزلة إسرائيل أيضاً في الرأي العام الأمريكي بشكل عام والرأي العام في أوساط اليهود الأمريكان بشكل خاص (“حيث يشعر العديد من الجمهوريين، شأنهم شأن الديمقراطيين بالغثيان لمشاهدة قائد إسرائيلي يقوم بحملة ضغط لإيجاد الأعذار لطاغية عربي ارتكب جريمةً، كما يقول أحد الصحفيين. ونتانياهو يجازف بهذه العملية. ففي أسوأ الاحتمالات (حتى لو بدا الأمر بعيداً في الوقت الحاضر) لو ترتب على قضية الخاشقجي عواقب وخيمة على محمد بن سلمان ولو ازدادت سياسة ترامب في أعين الناس التباساً وعشوائية، فسوف تفقد استراتيجيته الإقليمية هذه بأسرها أي جدوى، ”فيما لو خرجت الأمور عن السيطرة، فسيكون تورط نتانياهو ساطع للعيان: سيبقى إسمه مرتبطاً الى الأبد بالفضيحة السعودية” هذا ما كتبه شيمي شاليف، مراسل هآرتس في الولايات المتحدة الأميركية.
من عُمان الى تشاد
ولقد كانت قائمة “النجاحات” الأخيرة التي أحرزها نتانياهو في البلدان المسلمة، وعلى وجه الخصوص النظم الملكية في الخليج، تبدو حتى الآن مثيرة للدهشة. ولقد تمت أساساً بفضل العلاقة التي أرسيت مع الرياض. وحتى بعد اغتيال الخاشقجي قام نتانياهو بزيارة الى سلطنة عمان. كما استقبل في إسرائيل الرئيس التشادي إدريس دبي ووصف زيارته بـ “التاريخية”. ولقد إدلى دبي خلال زيارته بتصريح قال فيه إنه “يخوض حرباً مشتركة ضد الآفة المقززة في هذا العصر ألا وهي الإرهاب”.
وينوي نتانياهو بيع الأسلحة لكل الأصدقاء الجدد والقيام بتسويق منتجات الشركات الإسرائيلية التي باتت الأولى في العالم من حيث تخصصها بالتجسس الإلكتروني فهي تقترح على الأنظمة مواد وتدريبات للتحكم بشعوبها بدءاً بقوى المعارضة. وتهدد قضية الخاشقجي أول ما تهدد مستقبل هذه الحملة الدبلوماسية والتجارية باتجاه العالم العربي “المعتدل”. فلقد قام المعارض السعودي عمر عبد العزيز والمقرب جداً من جمال خاشقجي يوم الإثنين، في 3 كانون الأول، بتقديم طلب فتح تحقيق في تل أبيب ضد الشركة الإسرائيلية “إن إس أو” المتخصصة في التجسس لإنها زودت السعودية، بموافقة السلطات الإسرائيلية، بأدوات التلصص الهاتفي التي سمحت بمتابعة محادثاته مع الخاشقجي حتى جريمة قتله.
استراتيجية تل أبيب غير المأمونة
وحتى لو حافظ محمد بن سلمان على سلطته، فإن قدرته على خدمة مصالح إسرائيل ستكون أضعف، على الأقل في فترة أولى. ولقد صرح دافيد شابيرو السفير الأميركي الأسبق في تل أبيب (والمعارض علناً للخط السياسي المتمثل بترامب ونتانياهو) “إن جريمة قتل الخاشقجي كارثة بالنسبة لإسرائيل.” أولاً لأنها تؤكد على عدم إمكانية التعويل على السعودية كحليف وهي تحت قيادة محمد بن سلمان. فهو يتساءل ” ما هي مصلحة إسرائيل في الإبقاء على حلف مع من يراكم الإخفاقات (في حرب اليمن، في العلاقة مع قطر، في التنافس مع القوة الإقليمية الإسلامية الأخرى، تركيا). ولأن نتانياهو كان يعتمد الى حد بعيد على مساعدة السعودية في تعزيز الأواصر مع النظم الملكية الأخرى في الخليج (ولا سيما البحرين وعمان) وذلك بهدف دفع الخطة ذات الاثنتي عشرة نقطة من وضع وزير الخارجية مايك بومبييو، والتي تم تقديمها في أيار 2018 والهادفة الى زيادة الضغط على إيران الى حين انهيار النظام فيها – حسب تعبيره.
وإن لم تكن العلاقة مع السعودية تثير الاهتمام الكبير في الرأي العام الإسرائيلي، فالعديد من “الخبراء” الإسرائيليين في شؤون المنطقة باتوا يشككون في جدوى الاستراتيجية التي ينفذها نتانياهو. سيما وأنها قد تكون قصيرة الأجل. (ماذا لو لم ينتخب ترامب بعد سنتين؟). كما يخشى الكثير على سبيل المثال أن يتعمد محمد بن سلمان التوغل أكثر فأكثر في أوحال الحرب اليمنية بدل أن يحاول الخروج منها فتصاب السعودية بالوهن في الوقت الذي يطلب منها أن تكرس كل طاقاتها للمجابهة مع إيران. وما هي الفائدة أصلاً في تشكيل ائتلاف مع بلد يصعب تقديمه على الصعيد الدولي على أنه بلد أكثر استنارة من إيران. ومرة أخرى يعود نفس السؤال الى قلب الجدل الإسرائيلي: طالما بقي محمد بن سلمان في الصورة فمن المرجح أن يشكل عائقاً أمام محاولات بناء ائتلاف دولي ضد إيران.
تراكم حالات الفشل
ورغم ذلك لا يبدو أن ثمة استراتيجية بديلة لدى نتانياهو. فصون العلاقة مع ترامب والحفاظ على قدرة التأثير على الإدارة الأمريكية هما العاملان الرئيسيان في استراتيجيته هذه، والتي يهدف من خلالها على وجه الخصوص الى إثبات أنه من الممكن عقد علاقات مستديمة مع الأنظمة العربية الأكثر أهمية في محيط إسرائيل دون أن يأبه أحد بالقضية الفلسطينية. وأياً كان مصيره الشخصي غداً يحق للمرء أن يتساءل منذ الآن عما إذا كان محمد بن سلمان قادراً، حتى لو ظل في السلطة، أن يساعد ترامب ونتانياهو على إركاع الفلسطينيين. ولقد أصبح ضلوعه المؤكد في قتل الخاشقجي عاملاً يجعل من خطة السلام الأمريكية التي هي أصلاً أشبه بالسراب خطة تتراجع احتمالاتها أكثر فأكثر.
في حالة الوهن السياسي التي وصل إليها، بما في ذلك في فضاء “الاعتدال” الذي يواجه فيه خصوماً غير مستعدين لترك الساحة له (وعلى رأسهم تركيا إردوغان)، يصعب بالفعل تصور أن محمد بن سلمان قادر على العودة الى فكرته القديمة، أي حل القضية الفلسطينية بجعل محمود عباس يتراجع عن آخر مطالبه الوطنية. ففي مثل هذه الحال سيظهر محمد بن سلمان على أنه مُرتهن لسيدين قاما بالجهود المشكورة لإنقاذه من ورطته: ترامب ونتانياهو.
سيما أن قضية الخاشقجي قد طرأت في سياق تبدو فيه حالات الفشل الأخيرة في سجل نتانياهو بنفس عدد نجاحاته وطابعها المثير للدهشة، هذا إن لم تكن أكثر . فلقد بدأت في 17 كانون الأول عندما أسقط الدفاع الجوي السوري بالخطأ طائرة روسية من طراز II 20 خلال تحليقها في الأجواء، ما أودى بحياة 15 جندي روسي. ولقد حملت روسيا إسرائيل مسؤولية هذا الحادث لأن إسرائيل كانت تقوم في الوقت نفسه بمناورات جوية على مقربة من مكان الحادث. ومع أن القضية تم تسويتها بين بوتين ونتانياهو إلا أن العلاقات التي كانت قد تحسنت مؤخراً بين روسيا وإسرائيل تعكرت مجدداً. ولقد سلمت روسيا سورية صواريخ س300 أكثر تطوراً من الصواريخ التي كانت لديها.
ومنذ هذا التسليم فإن إسرائيل قد كفت تقريباً عن عملياتها ضد سورية. ولقد اضطر نتانياهو أن يعترف أمام برلمانه بأن “روسيا وحدها لا تملك الإمكانيات الكافية لترحيل القوات الإيرانية من سورية”. بمعنى آخر، فإن الهدف السياسي الرئيسي للإسرائيليين في سورية – أي إخراج الإيرانيين من البلد أو على الأقل انسحاب واسع للقوات الإيرانية والموالية لإيران بعيداً عن الحدود مع الجولان – كما يقول – قد اصطدم برفض بوتين.
لقد برز اللقاء بين نتانياهو وبومبيو في بروكسيل في 3 كانون الأول كإنذار أخير قبل شن عملية واسعة النطاق في لبنان.. وفي هذه الظروف التي تقرع فيها طبول الحرب فإن الضعف الذي يصيب النظام السعودي ليس خبراً ساراً لإسرائيل.