دراساتصحيفة البعث

واقع الأحزاب العربية

حسام خلف
كاتب من مصر
رغم أن الأحزاب السياسية نشأت في وقت مبكر في العالم العربي، إلا أنها اليوم تعاني من مشاكل خطيرة على مستوى الأداء والفاعلية، وعلى مستوى الفكر والنظرية، فمعظمها مصابة بآفات عدة تتفاوت بينها بحسب طبيعة الحزب نفسه، وطبيعة الظروف المحيطة، ومن أهم هذه الآفات آفة (الأدلجة أو الانغلاق الأيديولوجي)، فكل حزب ينشأ من رؤية فلسفية ومنظومة أيديولوجية تشكّل المرجع الفكري والقانوني للحزب.
يقوم المفكر بوضع هذه الأيديولوجيا كردة فعل على المآسي الاجتماعية، أو كمحاولة لمعالجة اختناقات الواقع الذي يعيشه، ولكن يحتاج المفكر إلى صبغ نظريته بلون من ألوان القداسة العلمية أو الدينية حتى تلاقي قبولاً اجتماعياً، أو من باب القناعة بما أنتج، ومن أمثلة الصبغة القداسوية على النظرية السياسية ما وصفه ماركس لنظريته بأنها النظرية العلمية، أو ما يضفيه أصحاب الإسلام السياسي من القداسة الدينية على نظرياتهم، حيث يعتبرونها النسخة الأصلية من الدين، والراد عليها أو الناقد لها رداً على الدين.
وهذه القداسة تجعل النظرية عصية على النقد والمراجعة، فمن سيرد على المسلمات العلمية أو الثوابت الدينية؟!.
وهكذا تصبح الأيديولوجيا مغلقة يمنع الاقتراب من مفرداتها بالنقد والتقييم، فيقصر التقييم والمراجعة على الإجراءات العملية عند حصول الفشل وانسداد الأفق على التغيير الواقعي، فالشيوعية مثلاً لم تقدم على مراجعة النظرية بعد ماركس رغم الفشل الذي منيت به في كثير من المواطن، إن لم نقل كلها، وكذلك بعض منظري الإسلام السياسي، وقد يبرر الفشل بطرق عديدة تارة بأن يلقى اللوم على الناس بأنهم لم يفهموا النظرية بشكل جيد، أو لم يتعاونوا مع الحزب، ومن ينتمون للفكر الديني قد يبررون الفشل بالابتلاء والامتحان، مع فصله عن غاية الاعتبار والرجوع التي جعلها الدين علة لهذا الاختبار والابتلاء.

الأحزاب والاستعلاء على الواقع
إن نظام عمل الأحزاب بشكله الطبيعي يظهر في عدة أمور: أولها التقاط هموم الشارع ومشاكل الناس واعتبارها مدخلات يتم من خلالها وضع خطة عمل وبرامج للحزب، ثم يبدأ العمل الدعائي ليقول أرباب الحزب للناس: إنكم إن أعطيتمونا أصواتكم سنعمل على علاج المشاكل التي تؤرقكم، ونكون أفضل ممن سبقنا، ويرفعون شعارات جاذبة، ثم يحصلون على أصوات الناخبين، ويصلون إلى البرلمان أو الحكومة، ويتخذون القرارات التي تؤثر على حياة الجماهير بشكل مباشر، والجماهير بدورها إما أن تؤيد هذه القرارات وسلوك الحزب، أو تواجهها بالرفض والإنكار، وبالتالي تذهب أصواتهم لأحزاب أخرى.
هذه منظومة متكاملة تحوي مدخلات ومخرجات وعمليات ونظام تحكمها بيد الجماهير من خلال التصويت والانتخاب، وعلى الحزب إن كان يريد النجاح- وفقاً لهذا النظام- أن يأخذ هموم الناس ومشاكلهم بعين الاعتبار قبل الوصول للسلطة، ويراقب رضاهم بعد الوصول إليها، ما يتطلب دراسة مستمرة للواقع والخيارات المتاحة، وعملية تفكير استراتيجي دؤوبة ومتواصلة، لكن الفشل يحصل عندما تكون للحزب أيديولوجيا مقفلة تحمل معها نسبة كبيرة من القداسة، بحيث يصبح من الصعب الاعتراف بالخلل الأيديولوجي، أو عدها قابلة للمراجعة وإعادة النظر، فتتم مقاربة المشاكل وإنتاج الحلول بالطريقة نفسها التي أدت للفشل، وهذا ما يفقد الجماهير ثقتها بالأحزاب، ويؤدي إلى إعراضها عن الانتخابات، وارتفاع منسوب السخط الاجتماعي بسبب تراكم المشاكل والاختناقات، وقد يؤدي لانفجار المجتمع على نفسه، سواء بشكل تلقائي، أو بتشجيع من أياد خارجية، والخروج من هذه المعضلة يتطلب جرأة كبيرة لفك القداسة العلمية أو الدينية عن النظرية وتحريرها من الاحتباس الأيديولوجي، والسماح للأفكار الناقدة بالتسلل إلى المنظومة العقائدية للحزب، وإلا بقيت النتائج تدور في الحلقة السابقة نفسها، وطريقة الفرْض الأيديولوجي ومحاولة إخضاع الواقع للنظرية هي سمة ظاهرة عند كثير من الأحزاب والتيارات السياسية، سواء منها تلك التي وصلت للسلطة أو لبعض منها، وتحاول البقاء والاستمرار فيها رغماً عن أنف الواقع المنفجر أو المختنق، أو تلك التي لم تصل بعد، لكنها لا تحاول أن تبحث عما يتاح لها في الواقع، وإنما تحمل قوانين ثابتة على الواقع أن يقبلها شاء أم أبى، والتفكير الاستراتيجي التي تحتاجه الأحزاب هو ليس ذلك التفكير الذي يدور في حدود الخطط العملية، والنوايا الاستراتيجية، لكن المطلوب هو المرونة في التفكير، بداية من:
1- التفكير بالنظم، أي رؤية الأشياء ضمن نظامها العام.
2- التفكير خارج الأفق المعهود بفك الإطار الذي ضربته الأيديولوجيا على نفسها، وتحريرها من أوهام الحتمية.
3- ممارسة التأمل والاستنتاج.
فالغرق في المعالجات الآنية لن يؤتي أكله، وقد تتضخم المشاكل بحيث تصعب السيطرة على مجريات الأمور، والمختصر المفيد أن على الأحزاب، إن أرادت أن تكون فاعلة في تقدم المجتمع، أن تمارس عملية التوقع والتموقع باحترافية وفنية عالية، (بين السيطرة والتشاركية) يوجد نوعان من طرق التفكير لدى الأحزاب فيما يخص البقاء في السلطة، بعضها يرى أن البقاء في السلطة هدفه الأول والأخير ولو سالت الدماء وخرّبت البلاد، والبعض الآخر يراها مباراة ودية تفوز مرة وتخسر أخرى، ثم تعود للتخطيط للفوز مرة أخرى.. إن التفكير بعقلية السيطرة لا يخدم أهداف المجتمع، ولا يفيد الحزب نفسه، فالحزب يريد رضى الجماهير، ويعلم أن رضاها مسألة حياة أو موت للحزب، لكن هذه النظرة لا تنشأ أساساً من أدبيات الحزب نفسه، وإنما من طريقة تفكير الشخصيات القيادية في الحزب، والتي تصبغ مبتغياتها بصبغة حزبية تمريراً لأهدافها الخاصة، وهذا يجعل صورة الحزب مشوهة وغير عصرية، وقد يفقد الناس ثقتهم بالحزب، فالطريقة التشاركية هي الحالة الصحية المطلوبة لتعامل الأحزاب مع السلطة، وهي تجعل الحزب أكثر فاعلية وقدرة على التغيير المثمر والتطور من خلال المنافسة، فمما سبق تتبيّن أهمية التحول الضرورية من الأدلجة المغلقة إلى التفكير الاستراتيجي المرن، وأهمية المراجعة الأيديولوجية المستمرة، وتحرير النظرية من جدران القداسة.