بانتظار المعركة الفاصلة
هناك أسباب كثيرة للشعور السوري بالثقة والقدرة على التحكّم بالقضايا الأمنية والعسكرية، والسير بها، على المستوى الاستراتيجي، إلى نهاياتها الإيجابية، رغم طغيان مناخات التصعيد والمفاجآت على الحدود الشمالية والجنوبية الغربية. إذ، وفيما يبدو أن ترامب قد اهتدى أخيراً إلى نقطة ضعف نظيره التركي – حليفه المستعاد – وقرّر العزف على جنون عظمته، تظهر التصريحات العنترية التركية حيال الاستعداد لـ “ملء فراغ” الانسحاب الأمريكي “البطيء والدقيق”، من مناطق الجزيرة، نوعاً من التسرّع في ابتلاع الطعم والاستعجال الأحمق للسقوط في عمق الهاوية، ويستسهل نتنياهو، على التوازي، الانزلاق في متاهاته الإجرامية، في محاولة منه لإعادة تركيز الضوء، وتذكير ترامب، ومعه لوبيات الضغط في واشنطن، بأنه لا يمكن المخاطرة بالسماح بترك “إسرائيل”، ابتداء من اليوم، أمام احتمالات مواجهة قدرها منفردة، دون ظهير أمريكي يشغل كامل المساحة الشرق الأوسطية، ولديه الجاهزية لتقديم الدعم بالحجم والسرعة والتوقيت المناسب، وفي طل آفاق استراتيجية غير مريحة إطلاقاً، بل ومكفهرة وباعثة على التشاؤم.
الأنكى من ذلك، أن ترامب، الذي يبدو عازماً، هذه المرّة، على العودة إلى قاعدته الانتخابية، ومواجهة حالة الانفضاض والتمرّد التي خلفتها نزعته الفردية في واشنطن عبر الرجوع إلى الانتظام النهائي في شعار حملته الرئاسية “أمريكا أولاً”، وفي خضم التحضير لولاية ثانية، يطلق خطوة الانسحاب “البطيء” من المنطقة تاركاً وراءه حلفاء منقسمين يبحثون، عبثاً، عن بناء تحالفات جديدة قد لاترى النور، وقد لا تتوفّر لهم فرصة بنائها على الإطلاق، وذلك تحت ضغط التيارات الثورية العميقة التي تدفع منطقة الشرق الأوسط، خلال الحقبة الراهنة، إلى فضاء الاستقلال والتحرّر والخلاص من السيطرة الأجنبية.
يدرك نتنياهو حقيقة أن هامشه في المناورة آخذ بالتضيّق، وأن الغارات العدوانية التي يشنها الطيران الإسرائيلي ضد سورية انتهت أخيراً إلى عجز كامل عن إنجاز أي هدف، ولو كان استخباراتياً – من قبيل التعرّف على الترسانة السورية الجديدة المضادة للصواريخ من حيث الكفاءة والتموضع – علاوة على أن “منظومات الردع” الإسرائيلية آخذة، تدريجياً، بالانكشاف والتآكل مع “الهروب” المتزايد للصواريخ السورية المضادة إلى العمق الإسرائيلي. الأخطر من ذلك – ربما – أن السياق العملياتي الوحيد المتاح، بعد الآن، أمام تنفيذ ضربات جوية على الأراضي السورية، بات محصوراً بالتلطي خلف طائرات ثالثة – عسكرية أو مدنية – الأمر الذي يكشف عمق اليأس الذي وصلت إليه العقلية الصهيونية في عزمها على تنفيذ تدابيرها الإجرامية، وما يمكن أن يجرّه ذلك من توسّع أبعاد الصراع ليطال جوانب أمنية غير مسبوقة، ولا يمكن القبول بها، تضع “إسرائيل” في مواجهة مباشرة مع أمن الأجواء الإقليمية وسلامة حركة الطيران العالمي، وهي سابقة تهدّد بالإطاحة بكل ترتيبات الاستسلام الانفرادية التي وقّعت، أو تلك التي يمكن أن توقّع، بعيداً عن السلام العادل والشامل، علاوة على أنها تلغي مبرراتها، من الأصل.
مع إحباط العدوان الإسرائيلي على الأجواء السورية، ليلة أمس الأول، يتضّح أن قواعد الاشتباك الجديدة قائمة فعلياً على الأرض، رغم أنه لم يتمّ تفعيلها إلى مداها الكامل. والواضح أكثر أن الموقف السوري بضبط الأعصاب، والاكتفاء بالرد الآني والمباشر، والتزام حدود الدفاع عن النفس، وعدم المبادرة إلى تطوير أية عملية هجومية مقابلة، إنما يعكس حالة متزايدة من الشعور الضمني بالسيطرة العملياتية وأهلية التفوّق التي تنتظر ترجمتها، بكل معنى الكلمة، في التوقيت والمكان المناسبين. وللدلالة البالغة، فإن هذه هي قناعة الشارع السوري الممتلئ بالرضا والطمأنينة، والطافح بارتفاع المعنويات، وهو يتابع بالعين المجردة مجريات المعركة، ويرى كيف تتساقط الصواريخ الإسرائيلية، وكله ثقة بأن جبروت الجيش العربي السوري لم يظهر كامل أبهته وعنفوانه بعد، وأن هذا الجيش العقائدي يدخر الكثير الكثير للمعركة الاستراتيجية الفاصلة والنهائية التي ستتوج بتحرير كافة الأراضي السورية المحتلة والسليبة.
ليست الحروب ثرثرة كلمات، ولا استعراضات قوة! والانتصارات لا تكون أمام الميكروفونات ووراء المنابر.. إنها تتحقق من خلال الصمود في الميدان، وتحقيق الانتصار في مواجهة إرهابيي ومرتزقة أكثر من ثمانين دولة، ولثمانية سنوات متتالية.
بسام هاشم