في التعامل مع ترامب.. لابد من العودة إلى فولتير
ترجمة: علاء العطار
عن “نيويورك تايمز” 27/12/2018
نعيش في مناخ سياسي متغيّر، التعصب الأعمى، والتنمّر، والكذب، والسوقية، وكل ما ينبعث من تغريدات الرئيس ترامب ويضخمه أتباعه قد أضرّ بجو الحياة العامة، وطبقة الكياسة الواقية، التي تجعل الخطاب السياسي ممكناً، تتلاشى مثل طبقة الأوزون التي تطوق الأرض.
كيف يمكننا استرجاع مناخ صحي؟ لا توجد إجابة سهلة على ذلك، ولكن بعض الشخصيات التاريخية تقدم أمثلة تنويرية، وقد يبدو الشخص المقترح بعيداً عن ذلك، لكنه غيّر مناخ الرأي في عصره، إنه فولتير، الفيلسوف الفرنسي الذي حشد قوة مبادئ التنوير في أوروبا القرن الثامن عشر.
حسناً، لا أحد سيخرج بهكذا اقتراح سوى الأكاديميين، فمن في الولايات المتحدة لديه اهتمام بفولتير؟ أحياناً يقرأ طلاب الجامعات كتابه “التفاؤل” على أنه رواية قصيرة، وقد استمتعت الجماهير به كأوبريت من إخراج ليونارد برنشتاين، لكن الكتاب ينتهي بعبارة قريبة إلى التصوف: “دعونا نزرع حديقتنا”.
وحقيقةً أن السطر الأخير، وهو من بين أشهر السطور في الأدب، يجب أن يُفهم على أنه دعوة إلى المشاركة، “الزراعة” تعني الالتزام بالتهذيب، والكياسة، والحضارة نفسها، هذه هي الحجة المراد طرحها.
لأولئك الذين يصادفونه لأول مرة، قد يبدو فولتير مثل تحفة تاريخية، ويبدو شعره المستعار القديم وفكاهته الماجنة وكأنهما ينتميان إلى ركن منسيّ في الماضي، علاوة على ذلك، يمكن اعتباره محافظاً، كان يسعى لينال الحظوة لدى ذوي السلطة، وخاصة لويس الخامس عشر، وكان ملتزماً بشدة بالنظام الثقافي الذي طُوّر في ظل حكم لويس الرابع عشر، حاكم فرنسا السابق، لدرجة أنه قد يفشل في اختبار اللياقة السياسيّة في يومنا هذا، وعارض فولتير تعليم الجماهير لأنه، كما قال، على أحدٍ ما الاعتناء بالحقول.
لذلك، تغاضَ عن شعره المستعار، لكن أعدْ النظر في فكاهته، لا شيء يعطي نتيجة أفضل من السخرية ليُدرك المتعصب حجمه الحقيقي. كتب فولتير: “لم أدع الله في حياتي سوى مرة واحدة، وكان دعاءً قصيراً جداً: ربِّ اجعل من أعدائي أضحوكة، واستجاب الله لذلك”، كان أول أقوى سلاحين في ترسانته هو الضحك: “يجب أن يكون الضحك بصفنا”، هذا ما أمر به قواته المساعدة المتواجدة في صالونات باريس.
والسخرية تنفع خارج الصالونات أيضاً، فنحن في أمريكا لدينا ستيفن كولبير على التلفاز، وفي الصحف كان لدينا هنري مينكين، ومارك توين في الكتب، ومع ذلك، قد تبدو الفكاهة نخبوية، وقد سعى فولتير للنخبة، وخاصة في شبابه، عندما مجَّد بالثروة والمتعة ومتاع الحياة الطيبة، وقصيدته “لو موندان”، التي كتبها عام 1736، بمثابة تبرير للرفاه الدنيوي، كما كتب مبيناً معارضته للزهد في المسيحية “غير ضروريٍّ، وضروريٌّ للغاية”.
كان ذلك فولتير الشاب الماجن، ولكن الآن، في أزمتنا المعاصرة، يجب أن ننظر أيضاً إلى فولتير العجوز الغاضب، فهو لم يستخدم سلاحه الثاني والأقوى، وهو العاطفة الأخلاقية، إلا حينما غدا هرماً، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر.
في 1762 اطلع فولتير على قضية القتل القضائي، فقد أدانت محكمة بارليمنت (المحكمة العليا) في مدينة تولوز تاجراً بروتستانتياً، جان كالا، ليتمّ تعذيبه وإعدامه بناءً على افتراض أنه قتل ابنه، الذي كان من المفترض أنه اعتزم التحوّل إلى الكاثوليكية. لم تكن الافتراضات خاطئة فحسب، بل أشارت الأدلة القوية إلى براءة كالا.
مثّلت القضية لفولتير أكثر من مجرد إساءة في تطبيق أحكام العدالة، إنها تجسّد الفظائع التي لحقت بالبروتستانت على مدى قرنين، وقد تمّ ذبحهم وطردهم من البلاد وإجبارهم على التحول إلى الكاثوليكية وحرمانهم من الحقوق المدنية، بما فيه الحق في الزواج ووراثة الممتلكات في إطار القانون، وذهب فولتير إلى ما وراء اضطهاد البروتستانت ليرى التعصب بشكل عام، وإلى ما هو أبعد من التعصب، ليرى الهمجية.
تناول فولتير قلمه وقام بتأليف “رسالة في التسامح”، وهي واحدة من أعظم الدفاعات التي كُتبت عن الحرية الدينية والحقوق المدنية على الإطلاق، كما كتب رسائل، المئات منها، إلى جميع معارفه في النخبة الحاكمة، وزراء، ورجال في الحاشية، ورؤساء الصالونات الأدبية وزملاء فلاسفة، فبدأ من أعلى المناصب إلى أسفلها وتلاعب بوسائل الإعلام في عصره بحرفية عالية لدرجه أنه خلق موجة عارمة من الرأي العام، ما سيؤدي في النهاية إلى الاعتراف بحقوق البروتستانت في عام 1787، بعد تسع سنوات من وفاته.
كانت تنتهي العديد من رسائل فولتير بشعار “Écrasez l’infâme” أي: اسحقوا العار الذي يلحق بالأشخاص، فبالنسبة له، يمكن أن يمتد معنى “l’infâme” من عدم التسامح إلى الخرافات والمظالم من كل نوع، وفكرة التسامح المضادة تتجسّد في قيم أوسع، بما في ذلك الكياسة- الفضيلة التي نحتاجها اليوم كثيراً والتي ربطها فولتير بالحضارة، ورأى فولتير في انتصار الحضارة على الهمجية أعظم خيرٍ أنتجته العملية التاريخية، وقد أوضح الرسالة في أكثر أعماله طموحاً: “مقال في أعراف الأمم وروحها”، وهو عبارة عن دراسة لتاريخ العالم تمّ نشرها لأول مرة عام 1756، وظل يراجعها ويتوسّع بها إلى أن وافته المنية في 1778.
ما الذي يمكن أن نتطلع إليه في عصر ترامب؟ مرة أخرى تدعو معارضة التعصب والدفاع عن الحقوق المدنية إلى الالتزام بقضية الحضارة، بل إنهما تتطلبان عاطفة أخلاقية مُطيبةً برائحة الفكاهة، “دعونا نزرع حدائقنا، ولنسحق العار الذي يلحق بالأشخاص”.