الإلياذة..!
حسن حميد
دائماً، كنتُ أرددُ بيني وبين نفسي يقيناً أن من بنى الدنيا وعمرها هو العقل، وليس العقل سوى الفكر والعمل. وقد كانت من خلاصات العقل كتب ثقال في معانيها، ووزنها، وجمالياتها، وأبديتها الخالدة، ومن هذه الكتب كتاب الإغريق الحاشد لكل نفيس وإنساني ونبيل وسام، الذي يتحدث عن الدنيا خلقاً، وحياة، وعلائق، وطباعاً استناداً لثلاثية القيم الذهبية “الحق، والخير، والجمال”، أعني “الإلياذة والأوذيسة” هذا الكتاب الذي تلته كتب كثيرة، فلم يخبُ بريقه، ولم تنطفئ نيران معانيه، وقد أوقفت الدنيا دورانها حول الكثير من الكتب، والأعلام، والقضايا، والتواريخ البائدة ولم توقف دورانها حول هذا الكتاب، لا بل ازداد دورانها حوله كلما تقدمت العلوم واتسعت.
“الإلياذة” كتاب كبير ذو ظلال وطيوف، ومعناه كتاب طروادة التي تسمّى أيضاً (إيليون) فيبدي التعالق المحتشد بالدهشة والأسرار ما بين الآلهة والناس، والذي يقول، وعبر إشارات وتلميحات كثيرة أن الدنيا وما فيها، واقعاً وأحلاماً، تدور حول الإنسان ولأجله، وأن القيم لا تبدي جمالها إلا حين تصير بعداً إنسانياً، وأن البساتين وما فيها من نعم وطعوم لا تبدو زينتها إلا بوساطة الإنسان، وأن المعاني المشدودة إلى الحق والخير والجمال وطيوفها مثل النبل، والعمل، والوفاء، والبناء، والعطاء، والرضا، والحب، والرحمة، لا تبدو مسراتها إلا باندفاعها بالإنسان، وبذلك يبدو الإنسان، داخل الإلياذة، مثل الضوء للعين، فلا إبصار إلا بوساطته، وإلا حلَّ العماء، والحق أن دوران الآلهة والحياة حول الإنسان في هذا الكتاب هو دوران من أجل إمطار الحياة بالسعادة أو طيوفها..
و”الإلياذة” حكاية طويلة كتبت شعراً، ثم تحولت إلى النثر للكاتب اليوناني هوميروس، الشاعر الأعمى، وعمرها ثلاثة آلاف سنة، وهي تؤرخ حرب طروادة وما جرى فيها من قتل، وتحالفات، ومداخلات للآلهة لنصرة فريق على آخر، إلا أنها ليست تاريخاً، ولو كانت كذلك لطويت واندثرت، أو أنها بقيت كتاريخ يخص اليونانيين وحدهم، وما يعطي هذا الكتاب الحيوية، والحضور المهيب في كل الأزمنة هو معاني الحكاية التي تنظم هذا الكتاب من أوله إلى آخره، كدت أقول لأن هذا الكتاب بمنزلة المرآة للإنسان وفي كل العصور كي يواقفها ليس لكي يرى صورته الظاهرة وإنما لكي يرى جوانية أعماقه.
كل هذه الحرب الطروادية قائمة على سبب أنثوي منذ البداية وحتى النهاية، في البداية ترمي ربة الشقاق (إيريس) تفاحة ذهبية مكتوب عليها (إلى الأجمل) بين نساء حفل لم تدعَ إليه، فحاولت كل جميلة أن تحوز على التفاحة باعتبارها الأجمل، وقد قرّت التفاحة وسكنت أمام ثلاث من ربات الإغريق هن (هيرا، وأثينا، وأفروديت) فنشب النزاع بينهن، وذهبن طلباً للحكم على من هي الأجمل إلى (زيوس) كبير الآلهة، فأحالهن إلى راعٍ في البرية اسمه (باريس)، فذهبن إليه، وعنده وعدته كل واحدة منهن إن منحها التفاحة بوعد؛ (هيرا) وعدته بالشباب الدائم والمجد، (وأثينا) وعدته بالحكمة، و(أفروديت) وعدته بالزواج من أجمل امرأة، فمال إليها وأعطاها التفاحة، لكن أجمل امرأة وهي (هيلين) كانت متزوجة من الملك (مينلاوس)، ولم يكن أمامه سوى أن يخطفها من (أسبارطة) إلى طروادة! وبذلك نشبت الحرب! لكن (الإلياذة) ليست خبراً طويلاً عن الحرب، بل هي الخبر الطويل عن الناس وتعالقهم مع الآلهة الذين فرحوا بأن يروا صورتهم في مرآة الناس. فهل كان هذا سبب خلود هذا الكتاب، نعم، ولكن هناك أسباباً أخرى!
Hasanhamid55@yahoo.com