السيادة تستعيد مكانتها في أوروبا
ترجمة: عناية ناصر
عن موقع اوبزيرفر ريسرش فاونديشن ٢٠/١٢/٢٠١٨
كان من المفترض أن تكون أوروبا الغربية قد تجاوزت التاريخ، وهي المنطقة التي كانت دولها سعيدة بتسليم سيادتها إلى سلطة بروكسل، بينما كانت القيادة مشغولة في حلّ المشكلات في أجزاء أخرى من العالم. كان من المفترض أن تكون الديمقراطية الليبرالية في صورتها الأكمل، ورأسمالية السوق الحرة هي الشعار الموجّه للنُخب التي ليس لديها وقت تقضيه فيما تعتبره ظواهر سطحية مثل القومية، لكن الدول الأخرى كانت تلاقي التوبيخ حين تحاول الارتداد إلى غرائزها الأساسية لإجبارها على اتباع نظام صارم بشأن حقوق الإنسان والمعايير البيئية، وكان هذا التوبيخ الهواية المفضّلة لقيادة الاتحاد. لقد كانت أوروبا المتظللة بالمظلة الأمنية الأمريكية صريحة في حاجتها إلى خفض الإنفاق على الدفاع، كون الأمن القومي ارتبط بأمن الناس، وأن الحدود المادية لم تعد مهمّة في عصر نظام تأشيرة “الشنغن”.
إن أزمة اليوم في أوروبا هي تذكير بأن السياسة الدولية تظل عالماً “هوبزياً”، حتى أن أوروبا الغربية وجدت صعوبة في التغلّب عليها. فالمنطقة في حالة اضطراب لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وها هي بريطانيا تسعى لتحديد دورها في أوروبا مع خروجها من الاتحاد الأوروبي باتفاق محسوم بالكاد. وتنتقل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي من أزمة إلى أخرى بمرونة تدفع إلى احترامها حتى بين منتقديها، فقد نالت الثقة في تصويت حول قيادتها لحزب المحافظين قبل فترة، لكن أكثر من ثلث نوابها صوّتوا ضدها، مما أضعف موقفها بشدة. ولإنقاذ قيادتها في اللحظة الأخيرة قبل التصويت في البرلمان، وعدت ماي بالانسحاب كزعيمة قبل الانتخابات المقبلة المقرّرة في عام 2022. لكن ماي لا تزال تواجه معركة للحصول على صفقة خروج بريطانيا من البرلمان البريطاني مع جميع أحزاب المعارضة في ظل وجود عشرات من نواب حزبها ضدها.
أما فرنسا فهي تعاني منذ أسابيع عدة من الاحتجاجات العنيفة نتيجة زيادة الضرائب على الوقود وتكاليف المعيشة وغيرها من القضايا، فيما يُسمّى بحركة السترات الصفراء. إن الهدف الأساسي للحركة هو تسليط الضوء على الإحباط الاقتصادي، وعدم ثقة الأسر العاملة الفقيرة بالسياسة. وتحت الضغط، أُجبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تقديم تنازلات بحدّ أدنى من الزيادة في الأجور وتخفيضات ضريبية بعد أسابيع من الاحتجاجات العنيفة. كان ماكرون في يوم من الأيام الزعيم الذي كان من المفترض أن يخلف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، كصوت للاتحاد الأوروبي، لكن مصداقية ماكرون تتراجع بسرعة في فرنسا. وحتى ميركل أعلنت اعتزالها، وخليفتها المحتملة، أنغريت كرامب- كارينباور، هي شخصية غير معروفة خارج ألمانيا وقدرتها على معالجة المشكلات الأوروبية الصعبة ليست واضحة تماماً.
إذاً تمزق الشعبوية التفاهم التقليدي بين بروكسل والدول الأوروبية، كما يتضح من الصراع المستمر بين إيطاليا والاتحاد الأوروبي، إذ تعهدت الأحزاب الشعبوية الحاكمة في إيطاليا بالمضي قدماً في تنفيذ وعود حملتها الانتخابية بما في ذلك الحدّ الأدنى من الدخل للعاطلين عن العمل. وبهذا، وضعت إيطاليا نفسها في مسار تصادمي مع الاتحاد الأوروبي، مما جعل منطقة اليورو مجهولة المصير، ففي خطوة غير مسبوقة فيما يتعلق بدولة عضو في الاتحاد الأوروبي، طلبت المفوضية الأوروبية من إيطاليا مراجعة ميزانيتها، واقترح رئيس الوزراء الإيطالي جيوسيبي كونتي خفض هدف العجز إلى 2.04 في المائة من الناتج للعام المقبل في تنازل كبير قدّمه للمفوضية الأوروبية، لكنه لا يزال غير كافٍ لإرضاء بروكسل.
في الحقيقة، اكتسبت الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة قوة مقارنة مع الأحزاب السياسية التقليدية غير القادرة على إدارة الغضب الشعبي المتزايد بشأن قضايا الهجرة والهوية. كما أن الهجمات على المؤسسات الديمقراطية في بولندا وهنغاريا وضعت المؤسسات الديمقراطية للاتحاد الأوروبي في خطر كبير. وعلى الرغم من اختلاف أولوياتها، فقد قامت بولندا وهنغاريا ببناء تحالف “غير ليبرالي” للدفاع عن المواقف القليلة بشأن التكامل الأوروبي الذي تتشارك فيه، ومقاومة ما يعتبرونه تدخلاً غير شرعي من جانب الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في شؤونهم الداخلية. كما يودّ رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيم التجمع الفعلي لبولندا، جاروسلاف كازينسكي، أن يكون الاتحاد الأوروبي مجرد مجموعة من الدول ذات السيادة التي تتشارك في سوق مشتركة، وهو موقف تتقاسمه مع بريطانيا.
لهذا يواجه الحلم الأوروبي أزمة لا تستطيع القيادة الأوروبية الحالية التعامل معها بمفردها، في وقت تعيد فيه إدارة ترامب تقييم المبادئ الأساسية للشراكة عبر الأطلسي، كما أن التحدي الجيوسياسي والجغرافي من روسيا والصين يزداد يوماً بعد يوم، ومن هنا ليس من المستغرب أن تعود السيادة إلى العمل وأن تتلاشى بروكسل.